بقلم: د.مهيب صالحة
بالرغم من الخسائر التي تتكبدها تركيا في الشمال السوري وفي ليبيا، فإنّ أردوغان لايزال يصرّ على سياساته العدوانيّة تجاه جارته سوريا، من خلال دعم الجماعات الإرهابية، وتجاه ليبيا، بتدخله السافر في شؤونها الداخليّة، من خلال دعم أحد طرفي الصراع هناك، حكومة فايز السراج، التي تهيمن عليها الجماعات الإسلاميّة.
وتبدو معركة إدلب في الشمال السوري، التي يحشد لها أردوغان، إنّ وقعت ولم توقفها الدول العظمى، واحدةً من أهمّ المعارك التي سيحصد منها أردوغان، ليس فقط خسائر كبيرة بالجنود الأتراك، بل ربما خيبات أمل في تحقيق أطماعه في الشمال السوري، وأضغاث أحلام إعادة “الإمبراطورية العصملية” إلى الحياة من البوابتين السورية والليبية، اللتين يعتبرهما مداخل تركيا إلى الشرق الأوسط والخليج العربي ووسط وشمال إفريقيا، وقاعدتي انطلاق للتدخل السافر في مصر، والتأثير عليها، لإعادة الإخوان المسلمين إلى سدّة الحكم.
تصطدم استراتيجية اللعب الأردوغانيّة على التناقضات، بين حلفاء الأمس ـ الناتو، وحلفاء اليوم ـ روسيا، بحائط صدّ، لن تنجح أيّة محاولة بعد الآن في اختراقه أو القفز فوقه، لأنّ خيوط اللعبة باتت مكشوفة أكثر من ذي قبل، وقد شارفت على نهايتها، وغدا اللعب على تخوم المصالح الدوليّة والإقليميّة المتناقضة أو المتقاطعة ذا ثمنٍ باهظٍ سواء في سوريا أم في ليبيا.
فثمة تفاهم دولي لتقزيم دور تركيا في شمال سوريا، وإخراجها من ليبيا كلياً، وستتكفّل بذلك روسيا في سوريا، ومعها أوروبا والمحور العربي في ليبيا.
فروسيا تتمسك باتفاق سوتشي وتطالب أردوغان تنفيذ التزاماته، كما تساند القوّات الحكوميّة السوريّة لبسط سيطرتها على ريفي إدلب وحلب الجنوبيين، وفتح معبر باب الهوى الاستراتيجي.
أمّا واشنطن لا تخفي رغبتها في أن يقلّع أردوغان شوكه بيده في إدلب، حيث أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي روبيرت أوبرايان: “لن نتدخل في إدلب لحلّ مشاكل لم تكن من صنعنا، ولن نرسل قواتنا إلى بيئة فوضوية”، بمعنى آخر “من يذهب إلى الوحل على قدميه لن تخرجه واشنطن بعربة أمريكية”.
وأردوغان ذهب بمحض إرادته إلى أستانا ومناطق خفض التصعيد واتفاق سوتشي مع بوتين، وهذه كلّها أبنية روسية، من منظور فلسفة الكرملين للمسألة السورية، القاضية بتجزئة الحل، تغليب طرف على طرف، ومن ثمّ فرض إرادة سياسيّة على أخرى، بالتالي إذا غرق أردوغان، وأغرق معه شريكيه في أستانا، في وحول إدلب، لن يسعفه الناتو، كما لن تفيده تصريحات الدعم السياسي من قادة الناتو بين الفينة والأخرى، لأنها ستكون مجرّد حبر على ورق إذا كانت مكتوبة، وفقاعة صوتيّة إذا كانت مسموعة.
ويتحرك الناتو في حالة واحدة، إذا انقلبت موازين القوى في الشمال السوري بشكل دراماتيكي، بما يهدد مصالحه الاستراتيجية.
لن تفيد تهديدات أردوغان طالما لم يحصل على ضوء أخضر من الناتو، بتقديم الدعم اللوجستي لعدوانه على سوريا أو إقامة منطقة حظر جوي فوق إدلب. أمّا الدعم السياسي فإنّه تحصيل حاصل، طالما يشكّل ضغطاً دائماً على روسيا من أجل تقديم تنازلات سياسية في سوريا، وربما في غيرها من الملفات المعلقة بينهما.
وأقصى ما يمكن أن يجربه أردوغان في إدلب هو الضغط على القوات السوريّة الحكوميّة، بواسطة فائض القوة، الذي تمتلكه تركيا ويمنحها تفوقاً عسكريّاً منفرداً، والضغط على القواعد الروسيّة في سوريا من خلال عمليات نوعيّة، تقوم بها الجماعات الإرهابيّة التي يدعمها، لقبول الانسحاب إلى خان شيخون، والبدء بمفاوضات جديدة مع روسيا حول إدلب على طاولة أستانا.
وفي حال فشلت تجاربه يضع نفسه في “خانة اليك”، فيصبح محاصراً في سوريا من شركائه في أستانا، ومحاصراً من معارضيه في الداخل التركي، وحلفاؤه في الناتو يصبحون أقلّ اكتراثاً بمصيره.
إذا بقيت أستانا، فإنّ وجود تركيا فيها سيكون أضعف من ذي قبل، وسيضطر أردوغان إلى تقديم تنازلات مهمّة في الملف السوري، ربما لا تقتصر على إدلب، بل تطال منطقة نفوذه في كلّ الشمال الغربي.
إما إذا لفظت أستانا أنفاسها الأخيرة في إدلب، فإنّ أردوغان سيتحرر من تبعاتها، ويصبح أكثر حريّة في التحرك باتجاه حلفاء الأمس ـ الناتو ـ لعلّه يحصل على ما كان يطلبه منهم دائماً، وهو إقامة “منطقة آمنة”، أو “منطقة أمنية”، على طول الحدود مع سوريا، ويغير بذلك قواعد اللعبة مع حلفاء اليوم وشركائه في أستانا، وبالتالي تأخذ المسألة السورية مساراً آخر، غير مسار أستانا، لكن ليس بالضرورة أن تعود إلى مسار جنيف.
وفي الداخل التركي يدفع أردوغان ثمن تحالفه مع الجماعات الإسلاميّة المتطرفة خارج تركيا، وحربه إلى جانب هذه الجماعات، في كلّ من سوريا وليبيا تفضح مزاعمه بأنّها مصلحة تركيّة وطنية، لأنّ تركيا لن تتخلى عن علمانيتها، وستقاوم على الدوام إجراءات أردوغان الثيوقراطية، وتفضح مزاعمه بالوقوف مع الشعب السوري في وجه الاستبداد، وهو الذي صار يتفنن بممارساته في تركيا، وشراكته مع حلفاء النظام في أستانا قضت على أحلام الشعب السوري بالتغيير الديمقراطي.
يقول زعيم المعارضة التركيّة وحزب الشعب، كمال كيليجدار أوغلو “نحن لا نريد الاقتتال مع أي أحد من جيراننا، ولا نريد الدخول في حرب بالوكالة، يدفع جنودنا ثمنها ..” في إشارة صريحة إلى خسائر تركيا في سورية وليبيا.
إنّ المعارضة داخل تركيا أصبحت تتزايد نتيجة الضربات الموجعة التي تتلقاها الجماعات الإسلامية المدعومة من أردوغان، وأيضا القوّات التركيّة التي دفع بها لإنقاذ ما تبقى من هيبته في سوريا. لقد أدى ارتمائه في الحضن الروسي والإيراني، وتلويحه المستمر بورقة اللاجئين بوجه أوروبا، إلى جعل حلفائه في الناتو يبتعدون عنه أكثر فأكثر، ويصبحون أقلّ اكتراثاً بمصيره، سواء في الخارطة التركيّة أو الخارطة الدولية والإقليمية.
لا يُشك في أنّ تركيا دولة إقليميّة مهمّة وفاعلة، وكلّ الدول تتفهم هواجسها الأمنيّة في منطقة تغلي بالمشاكل الدينيّة والإثنيّة والسياسيّة والأزمات الاقتصاديّة والأخلاقيّة، وقد تفجر لديها مشاكل من النوع نفسه، لكن من غير المفهوم طريقة ومقاربة حكومتها الإخوانيّة لقضايا المنطقة.
فإذا كانت تركيا تجاور سوريا، وتخشى امتدادات أزمتها إليها أو تحمل بعض تبعاتها، فماذا تفعل في ليبيا والصومال البعيدتين، ولماذا تحشر أنفها في كل قضايا المنطقة، وفي خلافات دولها كالخلاف السعودي المصري ـ القطري، ولماذا تلجأ لمعالجة المسائل والملفات مع دول المنطقة إلى وسائل وأدوات أقلّ ما يقال عنها، أنّها من الماضي الاستعماري البغيض؟.
إن أردوغان الذي فتح أبواب تركيا على مصاريعها، لكل من هبّ ودبّ من الإرهابيين، الحالمين بالخلافة الإسلاميّة الموهومة، وسط جملة من الأكاذيب والادعاءات الواهية، ونشر الفوضى الهدامة، بدأ يخسر دفعة واحدة ما قد ربحه بالتقسيط.
وكردّة فعل المغلوب على أمره، نشرت الجارديان البريطانية، خريطة تشرح فيها كيف نقل أردوغان إرهابيين من سوريا إلى ليبيا ومالي وتشاد والنيجر، لخلط الأوراق في محاولة أخيرة، من أجل إنقاذ ما تبقى من إسلام سياسيٍّ مهزومٍ سياسيّاً وعسكريّاً وأخلاقيّاً، وإعادة رسم خارطة الإرهاب في الشرق الأوسط وشمال ووسط أفريقيا، الأمر الذي صار يتناقض، إلى حدّ النفي، مع خارطة التوازنات الجيوسياسيّة الدوليّة، أو التي يعاد تشكيلها من جديد، بعد أن اقتنعت الاستراتيجيّة الأمريكيّة بخطر دعم الإسلام السياسي، على المصالح الغربية عموماً، ومصالحها القومية على وجه الخصوص، الأمر الذى يجعل الأردوغانية السياسية تزحف على بطنها، في منطقة غير مسموح اللعب فيها من خارج توازناتها الدوليّة الجديدة.
د . مهيب صالحة
كاتب وأكاديمي سوري
استاذ الاقتصاد وعميد سابق في الجامعة العربية الدولية
تنويه: الآراء الواردة في المقالة تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن وجهة نطر المجلس.
ملاحظة: هذه المقالة نشرت في موقع وكالة نورث بريس بتاريخ 5/3/2020