بقلم: سيهانوك ديبو
اُهترِأت حدود سايكس بيكو اليوم رغم هشاشة خطوط واضعيها بالأساس. كان لربيع الشعوب أو الربيع العربي أن يعيد صياغة قيمية عصرية ما بين الشعوب التي احتجزت ضمن هذه الخرائط؛ لكنها لم تعجز عن تحقيق ذلك فقط إنما جعلت مهمة الأنظمة التوليتارية أسهل حينما بات الحجز المجتمعي في أوجه ضمن الخارطة الواحدة. استجلبت رائحة الدم المنتشرة ضباع كثيرة؛ ولكل منها فريسة محددة. أما معشر الضباع المشهورة بعشقها للتفرد؛ لوحظ أنها اجتمعت سوياً لكثير من المرات مفضِّلة أن تقفز فوق خصائل خصائصها. وقد رصد ذلك جليّاً في حفلة الشواء السوري من قصة موت شعبها المعلن في عام قتلها التاسع.
المؤسف في قصة الحدود التي لم تعد مقدسّة. القصة التي كانت معلوم عنها بأنه حتى الطيور فيها كانت مراقبة؛ باتت اليوم مدّنسة. داسها الكثير. بالأساس كان التناقض سيد الموقفين الرسمي والشعبي حين تناول قضية الحدود المفروضة: فتارة معها وتارة بالضد إلى درجة التباكي؛ سوى أن الفارقة تكمن بأن أول من محى حدود سايكس بيكو هو الصناعة المحلية الإقليمية العالمية (داعش) في العراق وسوريا منذ العام 2014، واليوم وفي إكمال ما عجز عنه داعش باتت تركيا الأردوغانية العثمانية تتخطى الخارطة تلو الخارطة؛ مرة بحجة مزاعمها في تهديد أمنها القومي، ومرات بسبب فهمها المقلوب للتاريخ في حال القبول بأن تركيا الأردوغنية أو أردوغان على علاقة مع التاريخ، ومرة بسبب فتحه أبواب جهنم من خلال الاصرار على أشد المراحل ظلامية في تاريخ وفي جغرافية الشرق الأوسط والعالم أي مرحلة السلطنة العثمانية. لدى هذا الرجل مشكلة كبيرة في عقله. ليس بسبب تخطيه لجميع القادة في تأجيج الكراهية والخطاب الشعبوي فقط إنما استجلابه المشوه لمن يعدهم بالعظام. أردوغان في انقلابه على من أوصله إلى سدة الحكم وفي اتهامه لرفاق دربه يشبه ما فعله السلطان سليم الأول في قتله لأخيه أحمد وفرار الأخوين بربروس منه؛ لكنه فاشل في اختيار الشراكات بعكس سليم الذي اتصف بدقة اختيار الحلفاء والتوخي في الحفاظ على خصوصيات لهم. لكن فائز السراج لا علاقة أو أدنى وشيجة بينه وبربروس. أما مصطفى كمال فيستحق أن يكون جد الأتراك بعد انقاذه ما أمكن انقاذه من التركة العثمانية المحورة إلى تركيا الحالية. فلا يعني استشهاد أردوغان به على أنه بعلاقة وإياه سوى في نقاط فاشيّة قليلة يمكن إيجازها (الكرد موتى، العرب خدم، والفرس هم الأنداد)، وأنْ تكون تركيّاً كي تكون سعيداً.
وقعت شعوب المنطقة تحت خط جعلها حائرة خائرة، وقع ذلك تحت مبدأ مفاده بأن سيادة الدول تتمثل في الحدود بدلاً من حرية الشعوب؛ وأغلب الأنظمة من في المنطقة المنقسمة إلى كل هذه الدول استعبدت الشعوب للحفاظ أو التعليل بالحفاظ على الحدود. من أجل ذلك فإن أغلب هذه الأنظمة تسقط اليوم كأحجار الدومينو فتخسر الحدود قبل الشعوب.
أما حين تناول قصة الحدود فإن ذلك لا يعني الغمز أو اللمز أو العبث في قصعة الحدود. لأن هذه القصعة/ القصة لم يشترك فيها شعوب المنطقة بالأساس إنما هي رجس من عمل نظام الهيمنة العالمية، وكل التدنيس الحالي الآني للحدود يعني الإقدام على قصة أو قصص جديدة في حدود جديدة؛ هكذا يجب أنه سيفهم ويفهم، وإلّا ماذا يعني كل احتلالات أردوغان وجرائمه وتهديداته بغية استرجاع العثمانية؟ ودائما أو غالباً؛ ولأكثر من 600 عام؛ فإن كوارث الشرق والغرب تبدأ من تركيا: اسطنبول كانت أم أنقرة. وما التركيز على قصص الحدود المنهوبة سوى الحديث عن الحل الضائع في السؤال الأهم: أيّها الدول التي تناسبنا؛ مثالنا الأهم في ذلك هي سوريا؟ حينما تنتهي الحروب؛ علماً بأن حرب الشرق الأوسط أو الحرب العالمية الثالثة في الشرق الأوسط والأدنى لم تبدأ بعد بشكل مجلجل. ستبدأ على الأغلب في ساحة ليبيا؛ كساحة تم الحرص أن تربط مع عموم الساحات الملتهبة؛ سوريا واحدة منها، حينما تنتهي الحروب يبدأ وقت تناول الأفكار، فتُختار واحدة لن تكون متوافقة بالضرورة مع طبائع الشعوب. وكي لا نقع في المطب نفسه، علماً بأن من في الشرق الأوسط شعوباً وحكومات، يضاف إليهم اليوم أوربا الشعوب والحكومات؛ ينطبق عليها أن تكون الأكثر من تفوّت الفرص. الفرصة التي ضاعت على الجميع: السماح لأردوغان باحتلال عفرين بعد 58 يوم من المقاومة التاريخية لشعبها ولوحدات حماية الشعب والمرأة. سيبدو السؤال هنا منصفاً: هل كان لأردوغان أن يتمادى اللحظة –سيتمادى كثيراً- في ليبيا لو لم يتم احتلاله لعفرين؟ كان لذلك يمكن جداً أن يتم اجتنابه لكنهم سمحوا له مؤخراً احتلال رأس العين وتل أبيض وإنْ كان كذلك تحت يافطة بعثرة تركيا وإيغال أردوغان في الوحل السوري.
الماركسية وكل من يقسم المجتمع على شاكلتها بأن المجتمع بنيتان فوقية وتحتية هو تعريف مضلل غير صحيح. المجتمع بنية واحدة وإن كان هناك اصرار على تقسيمه فإن الأخلاق هي البنية الأساسية التي ينعكس عنها كل البنى الأخرى. هذا التعريف يبدو بالمنسجم جداً على الأقل في كل أنحاء الشرق. ومن أجل ذلك ولدواعي التنوع وتعدد الثقافات فإن الدولة متعددة الوطنيات يكمن في شكلها الحل الأنسب. العمران الصيني والاقتصاد الياباني والنهوض الأموي والعباسي والأيوبي والحضارات: البابلية الآشورية الميدية وغيرها ما هي إلّا شواهد منعكسة لأخلاقها وليس لاقتصادها. لأجل ذلك كله واعتماداً عليه فإن الدولة بتشريبها أكبر ضخ من الديمقراطية تتحول وقتها إلى جهاز إداري في خدمة شعب أو شعوب الدولة الواحدة، وليس بالإله الهابط من السماء كما وصفها هيغل. إذْ لا يوجد إله من صنع البشر إنما بشر يعبدون الله، وإن أصر عليه المرتعبون فإنهم ما يزالوا عالقون في جاهلية الآلهة المصنوعة باليد المصبوغة بكل فكر نمطي أجوف. ولعل أبرز الأمثلة في الدولة العصرية/ دولة المواطنة/ الدولة متعددة الوطنيات يكمن في نموذج الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا المطبقة منذ ست سنوات وتدخل عامها السابع بعد أقل من ثلاث اسبوع.
في حديث الخرائط في العام الجديد فإنها ستتعرض للتآكل أكثر، وستتغطى بالكثير من الدماء، ولم يوفر الدنس والدوس المستمرين من قبل الخارجي أية لحظة كي تنال حتى الذاكرة. لكن ما تزال الفرصة مواتية بأن نصنع نحن أقدارنا في ظل فوضى التنميط والتعليل الاستعلائي على شتى تصنيفاتها القومي أو الديني أو المركب منهما.
أيّاً يكن حديث الخرائط المشيّدة والمفروضة فإن في الديمقراطية يكمن الحل؛ ديمقراطية جديدة تتوافق مع طبائع السوريين وتنوعهم، وما يقابلها إدارياً هي اللامركزية التي تفضي بالضرورة إلى تحقيق أوسع مشاركة للسلطات.