بقلم: سيهانوك ديبو
توصف العلاقة العربية الكردية على أنها إحدى أقدم العلاقات التاريخية المتشكِّلة فى منطقتى المشرق الأوسط وشمال إفريقيا. تشاركتا فى أمور كثيرة وامتزجت ثقافتهما مرات متعددة، وبلغت أوجًا فى التاريخ الإسلامى؛ فقد سبقت فى ذلك العهد الأيوبى واستمرت بعده.
كما أنها تأصلت فى وقت السلطنة العثمانية التى امتازت بأنها كانت تجميعًا قسريًا لشعوب المنطقة التى تعرضت مقدراتها للنهب، واستخدمت السلطة بحقها فائضًا من القوة ومزيدًا من البطش والتهميش -لا سيّما- بحق شعوب المنطقة الأصيلة: العرب والكرد والسريان الآشوريين وغيرهم. استمرت هذه العلاقة وفق إطار طبيعى بعد سقوط السلطنة، ويستدل على ذلك بشكل مباشر فى مراسلات الشريف حسين مكماهون قبل وعقب اندلاع الثورة العربية الكبرى فى يونيو ١٩١٦ المدعومة من بريطانيا العظمى وقتذاك، هذه المراسلات التى خلت من أى مطالبة بضم مناطق كردستان إلى الدولة العربية المأمولة.
يتم تلمّس الشىء نفسه فى عهد الملك فيصل بن الحسين إنْ فى سوريا أو العراق، الذى أسس أول دستور للمملكة السورية بحكم فيدرالى؛ رغم عدم الاعتراف بها من قبل فرنسا المنتدبة على سوريا. والذى حصل بأنْ خذلت بريطانيا الشريف حسين ولم توف بوعدها، ومثلما انفصل العرب إلى ٢٢ دولة، فقد تجزأت كردستان إلى أربعة أقسام وقسم آخر تم ترحيل الكرد منه إلى ١١ جمهورية سوفيتية بعد إنهاء الحكم الذاتى الكردى فيه مع بداية نشوء السوفيت.
شهدت هذه العلاقة تطورًا ملحوظًا فى المنحى الرسمى العربى على يد الراحل عبدالرحمن بك عزام أحد أبرز مؤسسى الجامعة العربية وأول رئيسٍ لها منذ تأسيسها عام ١٩٤٥ وحتى ١٩٥٢، وفى مقال له فى مجلة الهلال المصرية التى كان يرأسها جرجى زيدان فى العدد الصادر بتاريخ ١ أكتوبر ١٩٤٣ بعنوان «الوحدة العربية». يقول عبدالرحمن بك: «بل يجب على الأمة العربية أن تدع للكرد الخيار فى الاتحاد معها أو الاستقلال بشئونهم متى شاءوا دون أى ضرر أو غضاضة.. وقد كان الأكراد فى الدول العربية قادة وأسيادًا فى كل العصور قبل صلاح الدين وبعده، وقد كانوا دعاة التقوى وأنصار العربية.. فالأكراد قوم مخلصون مصابون لا يمكن أن يأتى الأذى من جانبهم».
العروبة ليست ضد الكرد، وحل القضية الكردية عامة وخاصة فى سوريا ليس بالضد أو بالانتقاص من العروبة. على العكس تمامًا، فإن واحدًا منهما كفيل بنيل الثانية التمتع الكامل للحقوق غير المنقوصة، وهذه نتيجة تم تأكيدها مرارًا إنْ فى تناول نظام الهيمنة العالمية قبل مائة سنة أو فى ممارسات الأنظمة السلطوية، فمثلما كان مؤتمر القاهرة ١٩٢١ أنْ رسّخ تقسيم كردستان؛ القاهرة التى كانت ترزح تحت وطـأة الانتداب البريطانى؛ فإنها رسخت الواقع التقسيمى العربى وخرج منها وعد بلفور من النظرية إلى العملية، وكيف أن مفشلى الوحدة العربية- مثال الوحدة بين مصر وسوريا- حرصوا على ألّا تتحقق أى وحدة عربية فقد مارسوا فى الوقت نفسه أقصى الانتهاكات بحق الكرد وتجريد نحو ١٢٥ ألف مواطن سورى كردى من جنسيتهم، والبدء بأول تغيير ديموجرافى فى مناطق الكرد، وإنهاء كامل الحياة السياسية فى سوريا. وكل هذا مردّه أزمة بمزاودة قومية وتسليط مدافع التعصب القومى على كل مكونات سوريا، هذه المزاودة التى نمت عن بعد فاضح قصى عن الأزمة وتفسير بها، فكان نظاما البعث وويلاتهما على كل من العراق وسوريا وباقى المنطقة العربية يعود لهما أغلب حالات التردى فى سوريا والعراق رغم الصراع والقطيعة بينهما على حد سواء، كما تعود إليهما حالة الخلل التى نشأت فى النمط العروبى نفسه بالملاحظ لحالة التفارق والتواتر بينها؛ كما الحال فى النهج العروبى فى شمال إفريقيا وبشكل لا يقل عنه فى الخليج العربى المختلفين بشكل واضح والحالة التى تشكلت فى العراق وسوريا بشكل خاص؛ الأخيران شكك النظامان فيهما بأصالة الأطراف العربية الأخرى. ومن المفارقة أيضًا بأن يظهر كل من النظامين فى سوريا والعراق نفسيهما كحامى العرب والعروبة. وفى هذا فإن الخطأ الذى تم تمريره لصالح هؤلاء وضد دولة المواطنة ومنع ظهور حالة الانتماء السورى والقطع على تشكيل الهوية السورية الجامعة لكل مكوناتها؛ حينما تم الاشتراط مسبقًا فى أن يكون رئيس الدولة عربيًا ومسلمًا. بالرغم من أنه كان إجراء محض دستوريا ربما شكلى، لكن فى الحقيقة رسخ هذا الإجراء لحالة التقسيم فى سوريا إلى قوميات وأديان عليا وقوميات وأديان وطوائف مهمشة بشكل كامل. على التأكيد هنا بأن الأزمة السورية تعود جذورها إلى ذلك الوقت بشكل أكبر بكثير من أن تكون الأزمة السورية هى نفسها لحظة الانفجار السورى الكبير فى مارس ٢٠١١.
من الصعوبة بمكان فصل مسار قضايا الشعوب والقضايا العربية والكردية بشكل أخص عن بعضها. إنه تاريخ حافل بالكثير من المشتركات والإنجازات. ويشهد اللحظة كتلة كبيرة من الطرفين فيها الإصرار بالبقاء معًا ضمن أساسيات العيش المشترك ووحدة الشعوب وتوحّد مصيرها، كما فى نموذج الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كجزء من النظام الإدارى السورى العام. أما على المستوى الشعبى فالشعوب كلها وليس العرب والكرد وحدهما على وئام. الذى حدث بأن أنظمة معينة تأثرت بالشعارات الشعوبية والفاشية الممجدة للعرق وللقوم وللدين الواحد على حساب إبادة المكونات الأخرى من مصطفى كمال إلى هتلر وموسولينى وإلى مرضى الشعوبية فى وقتنا المعاصر، أنظمة أحدثت الخراب ووسعت الشقوق بين المجتمعات، فنمت ظواهر غربية عن كل شىء فى بلداننا وعن ثقافاتنا المتنوعة، كما فى ظاهرة داعش الفاشى المدعومة عن وحوش العولمة أيضًا.
وما بين العرب والكرد وئام، وخصام ما بين أنظمة مستبدة وكل شعوبها.
سيهانوك ديبو
ممثل مجلس سوريا الديمقراطية في جمهورية مصر العربية – القاهرة
المقال نشر في موقع صحيفة الدستور المصرية في 18 شباط/فبراير 2021