يقلم: عبدالعزيز حمدوش
إنَّ أيَّ مقاربةٍ للدورِ التركيّ في سوريا على أنّه تدخلٌ لاحقٌ بالأزمةِ ستُفضي إلى نتائجَ خاطئةٍ، والصحيحُ أنّها سببٌ مهمٌ جداً في الأزمةِ السوريّةِ وبخاصةٍ لجهةِ عسكرتها وتغييرِ مسارها وحصرها بالرؤيةِ المذهبيّةِ، والمتتبعُ لسياسةِ أردوغان منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطةِ في 3/11/2002 يُلاحظ أنّها جعلت أحدَ أهم أهدافها الانفتاحَ على المنطقةِ العربيّةِ بعد انقطاعِ كاملٍ لعقودٍ، وتحديداً منذ الإعلانِ عن تأسيسِ الجمهورية التركيّة في 29/10/1923، وكان ذلك أحد أهم التقاليدِ الأتاتوركيّة والتي كانتِ المؤسسةُ العسكريّة ضمانة استمرارها. وقد قدّم أحمد داوود أوغلو تصوراتٍ عن المشروعِ التركيّ الجديدِ والعُمقِ الاستراتيجيّ لتركيا القادمة، واعتمد مبدأ الصفريّة في المشاكلِ والمديونيّة الخارجيّة، أي هو دورٌ موسّعٌ لتركيا ما بعد الحربِ الباردةِ، وتجاوزُ المهمةَ المنوطة به كعضو في الناتو.
إلا أنّ مخططَ أردوغان اختلفَ عما نظّر له أحمد داوود أوغلو، ما استدعى إقصاءه من السلطة، كما طال الإقصاءُ كثيراً من السياسيين والعسكريين بعد الانقلاب المزعوم في 15/7/2016، وتبيّن أنَّ أبعادَ السياسة التركيّة وفق أردوغان المهووس بالتاريخِ العثمانيّ أبعد من ذلك، فهي في الحدِّ الأدنى تتمثل بإحياء الميثاق الملّي وإنهاءِ مفاعيلِ اتفاقِ لوزان، وهذا ما يستدعي تجاوزَ الحدودِ مع سوريا، وبذلك فالقوةُ الناعمةُ التي اعتمدها أوغلو في تنظيره لا تتوافقُ مع مخططِ أردوغان الذي تبنّى القوةَ الخشنة عبر التدخلِ المباشر، ولهذا جاء احتلال جرابلس في 24/8/2016 والانضمام إلى منصةِ أستانه لضمانِ نفوذٍ مباشرٍ في إدلب، عبر إقامةِ نقاطِ المراقبةِ، وكانت ثلاثُ نقاطٍ منها على التلالِ المشرفة على منطقة عفرين. وعبر الوجودِ التركيّ المباشر في الباب ومن بعدها جرابلس وتأكيد النفوذ في إدلب وجمع فصائل المرتزقة في كيانٍ واحدٍ باسم “الجيش الوطنيّ”، استكملت أنقرة خطواتِ التحضيرِ للعدوان على عفرين. وفي خطوةٍ لوضعِ اللمساتِ الأخيرة جاءت زيارةُ خلوصي أكار رئيس الأركان التركيّ وهاكان فيدان رئيس الاستخبارات إلى موسكو في 18/1/2018، ولتبدأ تركيا العدوان على عفرين في 20/1/2018.
عمليّاً دعمت أنقرة كلّ الفصائل المسلحة للعدوان على عفرين منذ بداية الأزمةِ عبر القصفِ ومحاولاتِ الاجتياحِ وفرضِ الحصارِ عليها، وهو ما يكشفُ كذبَ الدعايةِ التركيّةِ، بأنّ دعمها لما يُسمّى فصائل المعارضة يتصلُ بهدفها المعلنِ “إسقاطِ النظامِ”، فالمنطقةُ لا توجدُ فيها مراكزٌ أمنيّة وعسكرية وازنةٌ في المعادلةِ السياسيّة السوريّة، بل هي منطقةٌ سوريّة “قصية مقصية” بعيدةٌ جغرافيّاً ومستبعدةٌ خدميّاً وسياسيّاً.
كانتِ الحربُ على عفرين تخدمُ الأجندةَ التركيّة ليس في مستوى العداوةِ التاريخيّة للكرد ومحاولةِ تصدير الأزمة الداخليّة وحسب، بل لجهةِ الطموحاتِ التركيّة بالاحتلالِ والضمِ، وكلُّ الممارساتِ التي تُنتهجُ في عفرين من استباحة وانتهاكاتٍ لحقوقِ الإنسانِ وتتريكٍ لتفاصيلِ الحياةِ وتغييرِ ديمغرافيّ وتغييرِ التركيبةِ السكانيّةِ وإقامةِ الجدارِ العازلِ واستهداف للمواقع الأثريّة، تؤكّدُ التوجّهاتِ التركيّة وصولاً لمحاولةِ إيجادِ تسويةٍ بصيغةِ مقايضةٍ ما بين إدلب وعفرين.
مؤكد أنّ كلّ الحججِ التي ساقتها أنقرة لتبريرِ احتلالها لعفرين، لا أصلَ لها من الصحّة، وقضية الأمن القوميّ ونظرية المؤامرة حكاية قديمة روّجت لها الحكومات التركيّة السابقة أيضاً، وكلّ ذلك تثبته الوقائع، فعفرين كانت جغرافيا الأمن والاستقرار حينما استغرقت كلُّ المناطقُ السوريّةُ بالصراعِ المسلح وكانت ميادين حربٍ ضروس، وأما عفرين فكانت ملاذَ النازحين من باقي المناطقِ الساخنةِ من غير تفرقةٍ بينهم.
أحاديثُ الانفصالِ والتقسيمِ هي طفولةٌ سياسيّةٌ وكلامٌ في غايةِ السطحيّةِ، وباختصار، عفرين وكاملُ الجغرافيا في شمال سوريا لا تملكُ إمكاناتٍ ماديّة ولوجيستيّة وسياسيّة للانفصالِ، كما أنّ المزاجَ العامَ في هذا المناطقِ يميلُ بالأغلبيّةِ الساحقةِ للتمسكِ بالوحدةِ السوريّةِ، والمنطقة تتميّزُ بتعددِ المكوناتِ فيها والنسبةِ العربيّة الوازنة فيها مع وجود مكوّناتِ قوميّةٍ ودينيّةٍ أخرى، والعاملُ المهم جداً هو الواقعُ الكرديّ نفسه، فالوجودُ الكرديّ تفصله انقطاعاتٌ جغرافيّةٌ كبيرةٌ، كما أنّ الكردَ لا يتبنون أجندةً سياسيّةً تتضمن إسقاط النظام، والتجربتان التونسيّة والمصريّة أسفرتا عن محاولة استنساخ للنموذج التركيّ. والحقيقةُ أنّهم مشروعَ إصلاحٍ سياسيّ ومجتمعيّ قابلٍ للمناقشةِ على طاولةِ الحوارِ الوطنيّ، وهم يتطلعون إلى إيجاد حلٍ لقضيتهم العالقة ضمن أطرٍ قانونيّة ودستوريّة، وانطلقوا من إدراكِ كلّ المضاعفاتِ المحتملةِ للأزمةِ السوريّةِ، ولم يكنِ الطرحُ على مستوى الارتجال كما يحاول البعض تصويره أو المكوّن الأحاديّ وردّ فعلٍ على المظلوميّة الكرديّة التاريخيّة، فيما كان الآخرون وبدعمٍ تركيّ يروّجون للمظلوميّةِ السنيّة.
كان تأسيسُ وحداتِ حمايةِ الشعبِ بغاية الحمايةِ الوجوديّةِ في القرى والبلدات، وهي لم تُطلق أسماء كرديّة خالصة تجنباً للمغالطةِ، وانسجاماً مع أهدافها بكونها قواتٍ وطنيّة تحمي الشعبَ، ثم انضوت هذه القواتُ في تشكيلٍ أكبر باسم قواتِ سوريا الديمقراطيّة، لتعكسَ بذلك مسألتين مهمتين: الأولى أنّها تضمُّ مكوناتٍ سوريّةٍ وتؤكد طبيعةَ المهمةَ التي اضطلعت بها بتطهيرِ المناطق السوريّة من رجسِ الإرهابِ وهو ما تجلّى في معارك دحر الإرهاب وصولاً إلى إنهائه جغرافيّاً في معركة الباغوز في 23/3/، 2019والمهمةِ الثانية طبيعة المشروعِ السياسيّ الذي تتبناها حلاً للأزمة والمتمثل بالديمقراطيّة ووحدةِ الكيانِ الوطنيّ، وبالمقابلِ وقع الكثيرون في مستنقعِ الارتزاقِ والقتلِ المأجورِ.
العدوانُ على عفرين واحتلالها كان محاولة اغتيالٍ لمشروعِ الحلِّ الديمقراطيّ، الذي أخذ بالاعتبارِ أسبابِ الأزمة الجوهرية، وليس نتائجها وتداعياتها، وهذه مسألة جداً مهمة، فبعد سنوات من الترويج للنموذج التركيّ على أنه ديمقراطيّ ممثلاً للإسلام المعتدل بعد تصاعد موجة التطرف الدينيّ، فقد تبين زور الدعاية، ولا إمكان للمقارنة على الفكر والتطبيق. وهو ما جعل أنقرة تنظر إلى المشروع بعدائيّة مضاعفة، تُضاف للعدائية الموروثة.
من المهم جداً أن تأخذ عفرين مكانتها الصحيحة على المستويين الأول السوريّ الوطنيّ على أنّ احتلالها يعني انتهاك السيادة الوطنيّة السوريّة ومحاولة قضم للأراضي السوريّة وإعادة ترسيم الحدود على منهج اتفاق سيفر10/8/1920 واتفاق أنقرة20/10/1921 ولوزان 24/7/1923 ومن بعدها سلخ لواء إسكندرون 1939، وبالتالي عفرين مسؤوليّة وطنيّة بامتياز ومعها كل المناطق المحتلة. أما المستوى الثاني فهو المستوى الكرديّ القوميّ وهو يستدعي توافقاً كرديّاً وتبني موقفٍ موحّدٍ يأخذ يحدد أولوياتِ المرحلةِ بالتحرير وإنهاء الاحتلال والإرهاب، وينطلق من اعتبار أنّ العدوانَ التركيّ يستهدفُ الوجودِ الكرديّ بحاضره وماضيه ومستقبله. وعلى هذا الأساس فإنّ إجراءاتٍ مهمةً يجب أن تُتخذَ من غير انتظارٍ وعلى كلّ المستوياتِ.
عبدالعزيز حمدوش
كاتب ونانشط سياسي من مواليد مدينة حلب يكتب في العديد من الصحف والمواقع الالكترونية
تنويه: الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن تعكس وجهة نظر مجلس سوريا الديمقراطية