قبل سقوط نظام الأسد، كان مجرد الحديث عن منظمات المجتمع المدني وتياراتها الفكرية والسياسية يُعدّ تهمةً كفيلة بزجّ السوريين في غياهب السجون. هذا الواقع قاد إلى تهميش تام للدور الإيجابي الممكن لهذه المنظمات في مختلف المستويات.
لكن مع سقوط النظام، بات الحديث عن المجتمع المدني ودوره ضرورة وطنية ملحّة، نظراً لما تلعبه هذه المنظمات من أدوار محورية في تعزيز قيم المواطنة، وتقريب وجهات النظر بين السوريين من خلال تكريس الحوار الوطني والعمل على مسارات النهوض بالواقع السياسي والاقتصادي في البلاد.
ورغم هذا التحول، لم يُبدِ الكثير من الناشطين والعاملين في منظمات المجتمع المدني تفاؤلاً واسعاً بعد سقوط النظام، نتيجة التحديات الأمنية الكبيرة التي ما تزال تفرض حضورها على السوريين، خصوصاً في المناطق التي كانت خاضعة لسلطة النظام، والتي شهدت تغيّرات جوهرية في بنيتها السياسية ومجتمعها المحلي. تجاوز هذا الواقع بات أولوية لبناء سوريا جديدة.
لقد كان عمل منظمات المجتمع المدني خلال حكم آل الأسد محدود الأثر، واقتصر في أفضل الأحوال على الجانب الإنساني والإغاثي. أما اليوم، فثمّة إدراك متزايد لدورها المركزي في تحقيق الاستقرار وحفظ السلم الأهلي، إضافة إلى الضغط على السلطات من أجل العدالة الانتقالية والدفاع عن حقوق السوريين. وهكذا، يمكن القول إن منظمات المجتمع المدني باتت تتبنى أدواراً أشمل، تتجاوز العمل الإغاثي لتشمل التنمية المجتمعية وتعزيز وعي المواطنين بحقوقهم في مرحلة ما بعد الأسد.
حمص… صمّام أمان لسوريا الجديدة
فرض الواقع السوري الجديد تحديات نوعية على منظمات المجتمع المدني، لا سيما في محافظة حمص، التي شهدت تصاعداً في الانتهاكات ضمن أحيائها. المحامي وخبير العلاقات الدولية، عارف إستانبولي، قال من مدينة حمص:
“الدور المحوري لمنظمات المجتمع المدني في حمص يتمحور حول تعزيز السلم الأهلي، ووضع حدّ للاقتتال، ومنع انزلاق السوريين إلى نزاعات تُعيق الوصول إلى دولة ديمقراطية تعددية.”
اقرأ/ي أيضاً: مشاهد أمنية وسياسية غير مكتملة في محافظة درعا
وأكد أن محافظة حمص تمثل صمام الأمان الحقيقي للسلم الأهلي في سوريا، والنجاح في مهام المجتمع المدني فيها يشكل تجربة قابلة للتعميم على كامل الجغرافيا السورية. وأضاف:
“نسعى عبر مجموعة السلم الأهلي في المدينة إلى توظيف التنوع الطائفي في حمص لصالح الاستقرار، عبر تعزيز أدوات الحوار والبحث عن موجبات التهدئة.”
وتابع:
“نهدف إلى بناء سردية وطنية جامعة يتبناها كل السوريين، لأنها المفتاح الحقيقي لبناء دولة مستقرة، ويجب أن تكون هذه السردية قائمة على التشاركية وانخراط كل السوريين في تقرير مصير وطنهم، بعيداً عن الطائفية والمناطقية.”
منظمات المجتمع المدني ليست بديلاً للدولة… بل شريكاً في صناعة التغيير
من جانبها، قالت الباحثة الاجتماعية والمدرّبة في التنمية البشرية عفراء العلي من حمص:
“مهمة منظمات المجتمع المدني اليوم، بعد سقوط النظام، تتجسد في تعزيز السلم الأهلي عبر آليات تختلف عن تلك المعتمدة من قبل الدولة.”
وأشارت إلى أن العمل لا يقتصر على المدينة فقط، بل يمتد إلى الريف الحمصي، موضحة أن لديهم خطة ممنهجة لتفعيل قنوات الحوار في كل أنحاء الريف، خصوصاً في ظل تشابك جغرافي مع محافظتي حماة وطرطوس.
وأضافت العلي:
“قمنا بجولات في أحياء حمص والريف الشمالي والشرقي، ونظّمنا لقاءات حوارية جمعت أطيافاً متعددة من مكونات المجتمع الحمصي لبناء الثقة، ورأب الصدع، وتوحيد المسار الوطني بين الدولة والشعب.”
اقرأ/ي أيضاً: محافظة حماة.. مبادرات سياسية بإطار مجتمعي
وأكدت أن تركيزهم خلال الفترة الأخيرة كان في مدينة تلكلخ، التي عرفت توترات أمنية ومحاولات لزعزعة الاستقرار، وقالت:
“نجحنا في تحييد تلك المحاولات من خلال تعزيز الحوار المجتمعي وفتح قنوات تواصل فعّالة بين أبناء المدينة.”
تحديات الانتقال من الانقسام إلى المصالحة الوطنية
لا يخفى على أحد أن سوريا تعيش اليوم حالة من الانقسام المجتمعي، وهو ما يُحمّل منظمات المجتمع المدني مسؤولية كبيرة في الحيلولة دون تحوّل العدالة الانتقالية إلى أداة للانتقام أو التمييز، مما قد يُعيد إنتاج العنف والانقسام.
ونظراً للتنوع الطائفي والديمغرافي لمحافظة حمص، فإن هذه المهمة تصبح أكثر تعقيداً، خاصة في ظل تحديات الواقع الأمني الراهن.
لذلك، يبقى الدور الأساسي للمجتمع المدني في حمص قائماً على تثبيت دعائم السلم المجتمعي، والحفاظ على استقرار المحافظة، باعتبارها نموذجاً لسوريا التعددية والعادلة. وفي ظل تنامي دور الناشطين المدنيين، يمكن القول إن منظمات المجتمع المدني باتت من بين القوى القادرة على إحداث تحول حقيقي، من خلال تجاوز الانقسامات وتعزيز الحوار الوطني بين جميع السوريين.
سحر الحمصي- حمص