يمكن توصيف المشهد السوري الراهن بأنه يقف عند مفترق طرق حاسم، تتقاطع فيه آثار سنوات النزاعات المتلاحقة مع تحديات إعادة بناء الدولة والمجتمع. وفي قلب هذا المشهد تبرز محافظة درعا التي شكّلت منذ البداية مركزاً لثقل الاحتجاجات، ومسرحاً لصراعات معقدة، لتتحول اليوم إلى صورة مصغّرة تعكس معاناة السوريين جميعاً، كما تعكس آمالهم في مستقبل أكثر عدلاً وسلاماً.
الواقع في درعا يفرض مقاربة شاملة تستكشف أبعاد التحديات السياسية والأمنية التي تواجه المحافظة، مع التركيز على دور الوجهاء والناشطين السياسيين في الدفع نحو تجاوز الانقسامات العميقة وتعزيز السلم الأهلي. فالمطلوب الانتقال من منطق السيطرة الأمنية إلى مسارات سياسية أكثر شمولاً، ترتكز على التشاركية واللامركزية، وتستند إلى رؤية ديمقراطية تعددية تحتضن جميع المكونات.
استقرار درعا يتطلب أكثر من مجرد تهدئة مؤقتة، بل يحتاج إلى ترتيبات سياسية واجتماعية متكاملة تقتلع جذور الانقسام وتعيد بناء الثقة. فالمسار السياسي الحقيقي، كما يرى أهالي المحافظة، يبدأ بإعطاء صوت لجميع الفئات والمكونات، عبر حوار صادق يتجاوز الأسوار الأمنية ويفتح أفقاً واضحاً للمصالحة والعدالة الانتقالية والمشاركة الفاعلة في إدارة الشأن العام. هذه هي الخطوة الأولى نحو سوريا يتنفس شعبها الحرية، وتتكافل مكوناتها في إطار دولة ديمقراطية لا مركزية تصون الحقوق وتعزز السلم الأهلي.
ضرورة تجاوز الانقسام وتعزيز المواطنة
نايف العمري، أحد وجهاء درعا، يرى أن الانقسام الذي عاشه السوريون خلال السنوات الماضية ألحق أضراراً بالغة بالنسيج الاجتماعي، وخصوصاً في المحافظة التي تُعتبر بوتقة لمكونات وتجارب مختلفة. ويؤكد أن تجاوز هذا الانقسام ليس خياراً بل ضرورة حتمية لبناء مستقبل مشترك، على أساس مفاهيم المواطنة الحقة التي تكفل المساواة في الحقوق والواجبات بعيداً عن أي تمييز.
اقرأ/ي أيضاً: السويداء.. ضرورات ترميم الواقع الإنساني وصياغة عقد اجتماعي جديد
ويضيف العمري أن على السوريين جميعاً ترسيخ ثقافة الحوار الفعّال بين مختلف فئات المجتمع، ومنح مساحة حقيقية للمجتمع المدني والناشطين لقيادة هذه الحوارات، بالتوازي مع بناء مؤسسات محلية قوية تستند إلى المشاركة المجتمعية وتعزز التشاركية في اتخاذ القرار. ويشدد على أن الديمقراطية الناشئة لا يمكن أن تتحقق من دون هذه الأسس.
ويتابع العمري موضحاً أن التشاركية هي جوهر الديمقراطية، وأن بناء دولة تعددية لا مركزية يبدأ من القاعدة. فالمجتمعات المحلية في درعا وسائر المحافظات يجب أن تمتلك سلطة فعلية في إدارة شؤونها، بما يقطع الطريق أمام احتكار القرار من مركز واحد، ويفتح المجال أمام تمثيل أوسع وأكثر دقة. هذه اللامركزية تضمن التعددية الثقافية والسياسية، وتفسح المجال لكل صوت، وتخلق بيئة تفاهم وسلام داخلي.
كما يشير إلى أن إعادة بناء الثقة بين السلطة والمجتمع السوري شرط أساسي، وهذه الثقة لا تُرمّم بالشعارات بل بالتجربة والممارسة. من هنا تبرز أهمية المبادرات المشتركة التي تخفف من حدة الصراع، مثل مشاريع المصالحة، برامج التنمية المحلية، وآليات العدالة الانتقالية التي تعالج جرائم الماضي دون انتقام. ويضيف أن الإعلام المحلي بدوره قادر على كسر الروايات المضللة ونشر القيم المشتركة.
ويختم العمري قائلاً إن سوريا أمانة في أعناق جميع أبنائها، وأن تجاوز الانقسام ليس مهمة الحكومة وحدها بل مسؤولية جماعية، مؤكداً أن العمل المشترك والاحترام المتبادل بين المكونات هو السبيل لبناء سوريا ديمقراطية تعددية لا مركزية تصون السلم الأهلي وتكرم جميع مواطنيها.
تحديات سياسية وأمنية متشابكة
فادي الشيخ، المحامي والناشط السياسي من مدينة نوى، يؤكد أن الوضع في درعا شديد التعقيد، إذ يعكس امتداداً للصراعات الإقليمية والمحلية. فمن الناحية الأمنية، يسود انعدام ثقة واضح بين المجتمع والأجهزة الأمنية، فيما تشكل سيطرة الميليشيات المتعددة وغياب الحدود الفاصلة بين السلطة والنفوذ المسلح تهديداً مباشراً للاستقرار. وعلى المستوى السياسي، يعاني الناس من غياب تمثيل حقيقي يعكس مطالبهم، الأمر الذي يفاقم هشاشة الوضع.
اقرأ/ي أيضاً: حمص والمجتمع المدني.. التشاركية ركيزة للسلم الأهلي والتنمية المستدامة
ويضيف الشيخ أن تجاوز هذه الحالة يتطلب حواراً جدياً بين جميع الأطراف المحلية والرسمية، مشيراً إلى أن التدخلات الإقليمية في الجنوب السوري تسعى لترسيخ نفوذ أطراف معينة وهو ما لا ينسجم مع واقع المحافظة. ويؤكد أن غياب العدالة والمساءلة عن الانتهاكات السابقة يغذي الإحباط والغضب الشعبي، وهو ما يضاعف المخاطر الأمنية خاصة مع استمرار الاغتيالات بحق عناصر سابقين.
ويشدد الشيخ على أن لا بديل عن مسار سياسي شامل وشفاف يعالج جذور الصراع، بعيداً عن الحسابات الضيقة أو منطق السيطرة. ويرى أن إشراك جميع مكونات المجتمع الدرعاوي، من رجال ونساء وشباب وشيوخ، ضرورة لضمان نجاح هذا المسار، على أن يترافق مع آليات مصالحة وعدالة انتقالية تضمن احترام الحقوق وحمايتها.
ويضيف أن وجهاء درعا يمثلون صوت الناس الحقيقي، وهم قادرون على بناء جسور الثقة وإطلاق مبادرات للتهدئة عبر حوارات شفافة. كما أن المجتمع المدني مؤهل لإطلاق مشاريع تنموية تخفف من آثار النزاع وتوفر فرص عمل تسهم في تحصين السلم الأهلي، شريطة أن يحظى ذلك بدعم سياسي وأمني جاد من الدولة.
ويختتم الشيخ بالقول إن درعا ليست ملفاً أمنياً فحسب، بل هي نبض الوطن، ونجاحها يعني استقرار سوريا بأكملها. لذلك ينبغي أن يكون الحوار السياسي بشأنها نقطة انطلاق نحو سوريا جديدة، ديمقراطية وتعددية تحترم حقوق جميع مواطنيها.
درعا كنموذج وطني
في المحصلة، تتجلى درعا اليوم كنموذج مصغّر لما هو مأمول على المستوى الوطني. فهي تضمّ مجتمعاً عازماً على تجاوز ماضي النزاعات، والتطلع إلى مستقبل مستقر يضمن الحقوق ويحفظ الوحدة. فلا استقرار من دون مواطنة، ولا مستقبل مزدهراً من دون تشاركية. هاتان الركيزتان تمثلان الطريق نحو سوريا ديمقراطية تعددية، تحتضن كل أبنائها وتسير بخطى واثقة نحو سلام دائم.
هيثم الحوراني-درعا