تُعد مرحلة ما بعد النزاع في سوريا من أخطر المراحل التي تتطلب مسارات متعددة ومتزامنة لبناء مستقبل مستقر، إذ لا يكفي التركيز على جانب واحد من الأزمة، بل يجب تفعيل جميع المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بطريقة متكاملة. فالواقع يشهد تدهوراً في الاستقرار الأمني والسياسي في عموم سوريا، ولا سيما في الساحل، مما يفرض البحث عن حلول عملية تجمع بين المصالح الوطنية والاقتصادية، مع تعزيز دور المجتمع المدني كفاعل أساسي في دعم السلم الأهلي وتحقيق ديمقراطية حقيقية تعددية. ومن هذا المنطلق، تتوزع الأدوار بين الفاعلين السياسيين والمستثمرين والمجتمع المدني، وتبرز أهمية الحوار والتوافق كأساس للانتقال الوطني والوصول إلى تشاركية حقيقية تؤدي إلى دولة ديمقراطية تعددية لا مركزية.
في الواقع السوري اليوم، لا يمكن لأي جهة أو سلطة أن تحقق السلم الأهلي وحدها، لأن الأزمة متشابكة ومعقدة على المستويين الاجتماعي والسياسي. وهنا يكمن دور المجتمع المدني كجسر تواصل بين مكونات المجتمع المختلفة، وتفعيل هذا الدور ليس خياراً بل ضرورة ملحة.
المجتمع المدني ودوره في تقريب وجهات النظر بين السوريين
يؤكد الباحث الاجتماعي الدكتور عبد المنعم درويش من محافظة اللاذقية أن منظمات المجتمع المدني الناشطة في الساحل السوري تمتلك أدوات الحوار والتواصل المباشر التي قد تغيب أو يصعب وجودها في مؤسسات الدولة أو الأحزاب السياسية.
ويشير إلى أن الجمعيات والمنظمات غير الحكومية والمنتديات السياسية والثقافية سبق لها وأثبتت قدرتها على تقليل الاحتقان الاجتماعي من خلال برامج التوعية، والحوار بين الأجيال والطوائف، والعمل على بناء الثقة المتبادلة. هذه المبادرات تتيح للسوريين التعبير عن مخاوفهم وتصوراتهم بعيداً عن الخطاب السياسي الرسمي والانتماءات الضيقة.
اقرأ/ي أيضاً: نشطاء حماه يدعون إلى تفعيل القرار الأممي 2254 لتجاوز المأزق السياسي
ويوضح الدكتور عبد المنعم أن نشاط منظمات المجتمع المدني في اللاذقية يشكل منصة مثالية لتطوير أفكار ومبادرات سياسية واقتصادية، إذ تقرّب الجهات الفاعلة من المواطنين وتضطلع بدور محفز للمساهمة الشعبية في صياغة حلول وطنية، وذلك عبر التشبيك مع الجهات المحلية والدولية، وتنظيم ورش عمل ودراسات ميدانية ونقاشات استراتيجية تهدف إلى بناء رؤية وطنية شاملة ترتكز على المشاركة الحقيقية والعدالة الاجتماعية واستدامة التنمية الاقتصادية. ويشير إلى أن دعم هذا التوجه يحتاج إلى حماية قانونية واستقلالية وتمويل مستمر لضمان الاستمرارية والفاعلية، وهو ما يحتاجه أهالي الساحل اليوم، خاصة وأن تأخر الحلول السياسية والاقتصادية ينعكس مباشرة على السلم الأهلي ويزيد الانقسامات الاجتماعية.
ويضيف الدكتور عبد المنعم أن الخطوات الأساسية لتفعيل دور المجتمع المدني تشمل إعادة تثقيف المجتمع حول مفهوم المجتمع المدني ودوره الحقيقي، وبناء قدرات المنظمات لتكون أكثر مؤسساتية وشفافية، وتوفير بيئة قانونية تسمح بالمشاركة بحرية وأمان. كما يشدد على أهمية توسيع مساحة الحوار بين جميع مكونات المجتمع، ولا سيما الشباب والمرأة، والعمل على توعية المؤسسات الرسمية بضرورة فتح قنوات تعاون مع المجتمع المدني بدل التضييق عليه، فكل هذه الخطوات تمهد لسوريا تعددية ديمقراطية تجمع السوريين على رؤية مشتركة.
تفعيل المسار السياسي وربطه بالمسار الاقتصادي والاستثماري
الكاتب والخبير الاقتصادي سامر مصطفى من مدينة جبلة يشير إلى تدهور جزئي في جميع المسارات بسبب غياب الاستقرار الهيكلي، ويؤكد أن هذا الأمر لا يمكن حلّه بمعزل عن تفعيل المسار السياسي بشكل جدّي ومتكامل مع المسار الاقتصادي والاستثماري. ويقول الأستاذ سامر إن المسار السياسي يعزز مناخ الاستقرار والثقة اللازمين لجذب الاستثمارات وتحفيز النمو الاقتصادي، إذ تبقى الخطوات الاقتصادية غير قادرة على تحقيق تنمية مستدامة بدون استقرار سياسي واضح على الصعيدين المحلي والوطني.
ويضيف أن الاستثمار يحتاج إلى ضمانات قانونية وسياسية، وهو ما يتأتى من توافق سياسي ينهي الانقسام والصراعات التي تؤثر مباشرة على بيئة العمل والاستثمار في الساحل. وفي هذا السياق، يؤكد ضرورة تعزيز الحوار بين كافة المكونات السورية، فالحوار الوطني الشامل المبني على أسس وطنية جامعة يؤدي حتماً إلى حالة من الاستقرار السياسي والأمني، بما ينعكس إيجاباً على الساحل السوري وباقي المحافظات.
ويشير مصطفى إلى أهمية فتح قنوات حوار سياسي حقيقي يشمل جميع الأطراف الفاعلة لتشكيل إطار سياسي متفق عليه يضمن الاستقرار، إلى جانب تطوير سياسات اقتصادية تشجع على إعادة إعمار البنية التحتية ودعم القطاعات الإنتاجية والخدمية، ووضع تشريعات استثمارية تحمي المستثمرين وتخلق بيئة من الشفافية والمساءلة. ويؤكد على ضرورة تعزيز دور القطاع الخاص والمحلي عبر توفير تمويل ميسر وجذب الاستثمارات المباشرة، مشيراً إلى أن كل ذلك مرتبط بتقدم المسار السياسي الذي يوقف النزاعات ويحقق توافقاً وطنياً.
اقرأ/ي أيضاً: حماة بين التحديات والفرص: ضرورة تعزيز السلم الأهلي للتماسك والتعافي
ويختم بالقول إن المجتمع المدني وأنشطته في الساحل السوري يشكل حلقة وصل ضرورية بين السياسيين والاقتصاديين من جهة، وبين المواطنين من جهة أخرى. فهو يساهم في نشر الوعي الاقتصادي والسياسي وصياغة برامج تنموية شفافة، ما يعمق الاستقرار ويتيح للمجتمع الضغط باتجاه تطبيق الاتفاقات السياسية التي تهدف إلى الاستقرار الاقتصادي، ليصبح دوره محورياً في هذا السياق.
الواقع السوري يثبت أن الاستقرار السياسي والاجتماعي لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن مسارات سياسية واقتصادية مترابطة ومحكمة. ودمج تفعيل المسار السياسي مع الاستثمار والتنمية الاقتصادية، مع تعزيز دور المجتمع المدني في ضمان التفاعل والشراكة المجتمعية، يشكل الإطار الأكثر واقعية لتحقيق استقرار شامل ومستدام، ويعكس طموحات أهالي الساحل السوري في خطوات مدروسة تستجيب لتحديات الواقع الراهن، وتعيد بناء الثقة بين السوريين، وتفتح الأبواب أمام سوريا ديمقراطية تعددية تتسع للجميع في ظل سلام وازدهار مشترك، حيث يظل الحوار وروح الشراكة المتبادلة الضمانة الأساسية لأي مسار ناجح نحو المستقبل المنشود.
معن جبلاوي-اللاذقية