تشهد سوريا اليوم تحولات سياسية واجتماعية عميقة، تفرض إعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع كافة، وتأصيل ثقافة الحوار كمنهج وحيد لتجاوز أزمات الانقسام والصراعات التي أثقلت كاهل البلاد. وفي هذا السياق، يبرز واقع محافظة درعا كمثال حي على الحاجة الماسة إلى حوار وطني شامل، لا يقتصر على نقاشات نظرية أو تبادل أفكار، بل يمثل عملية جذرية تتطلب تضافر جهود القيادات المحلية والوجهاء والمجتمع المدني لتوحيد الرؤى وبناء تفاهمات سياسية تضمن حقوق الجميع، وفتح صفحة جديدة تمنح الأمل بإنهاء الفصول السوداء من تاريخ سوريا.
تكمن أهمية هذا الحوار في الاستماع إلى صوت درعا، التي رغم مآسيها وحروبها المتلاحقة، تحمل إرادة قوية للحوار والتوافق، باعتباره السبيل الوحيد للخروج من الأزمة وبناء مستقبل مشترك يرتكز على وحدة وطنية حقيقية وحرية وعدالة.
درعا في الإعلام والخطاب السياسي
فارس الرفاعي، ناشط سياسي ومشارك في “مؤتمر الحوار الوطني” في دمشق، أكد أن هناك تصوراً مبسطاً ولا يعكس الواقع الحقيقي للمحافظة، مشيراً إلى أن درعا ليست كتلة موحدة خلف السلطة الجديدة وفق أي نمط إيديولوجي أو ولاء أعمى. وقال: “الحقيقة أن المحافظة تعيش حالة توتر وحذر كبيرين، فالأهالي يعانون تبعات الحروب والتدخلات، وسعيهم الأكبر هو نحو الاستقرار والحياة الكريمة بعيداً عن العنف والتسلط. الجميع متفق على رفض استنساخ نموذج النظام السابق القائم على التبجيل والاستبداد، الذي سبب الكثير من الألم والمعاناة. هناك رغبة حقيقية في بناء مرحلة جديدة تبدأ بحوار وطني شامل يراعي حقوق جميع الوطنيين دون إقصاء أي مكون سوري.”
اقرأ/ي أيضاً: حمص.. دعوات لتعزيز السلم الأهلي نحو سوريا ديمقراطية تعددية
وأضاف الرفاعي أن الوجهاء في درعا لهم دور محوري وأساسي باعتبارهم أحد أعمدة المجتمع، حيث يثق بهم الأهالي كممثلين للمصالح الحقيقية للمحافظة. وأوضح أن هذا الدور أُسيء تقديره أحياناً من قبل السلطة والفصائل المختلفة أو الإعلام الخارجي، موضحاً أن الوجهاء لا يدعمون أي مشروع يقوم على التسلط أو الاستبداد، بل يسعون لحلول متوازنة ترتكز على التفاهم والمشاركة السياسية التي تحافظ على كرامة السوريين في درعا وفي عموم سوريا.
وأشار الرفاعي إلى أن الحوار الوطني ضرورة لترميم صورة المجتمع السوري والوصول إلى سورية ديمقراطية تعددية، مؤكداً أن الحوار يجب أن يكون عملية حقيقية تبدأ بالاعتراف بالآخر المختلف، وتحترم تنوع التجارب والآراء، وأن يشمل جميع المكونات والفعاليات السياسية والاجتماعية والثقافية والمناطق دون استثناء. وأضاف: “يجب أن يُبنى الحوار على أسس العدالة والمصالحة، لا على الانتقام أو تهميش أي طرف. وفي درعا هناك استعداد ملموس من القوى الفاعلة لتقبل الحل السياسي الذي يوقف دوامة العنف ويؤمن مشاركة حقيقية للمجتمع في بناء مستقبل سوريا الذي نطمح إليه.”
ورغم التفاؤل، لا يُخفي الرفاعي مخاوفه، قائلاً: “هناك قلق من أن تبقى الخلافات السياسية عالقة وتؤدي إلى مزيد من التدهور، وهذا القلق مشروع ويعكس وعي الناس بحساسية المرحلة، لكن بقاء الخلافات دون معالجتها يعني استمرار الانقسام وتعميق الجراح. الحل هو التعبير عن هذه الخلافات ضمن أطر الحوار، لا في ساحات الاقتتال أو العنف. درعا مثال حي على أن تجارب الواقع تلزم الجميع بالبحث عن مخرج يضمن السلام الأهلي والمصلحة الوطنية.” وختم قائلاً: ” الحل السياسي بالحوار والوفاق هو أملنا جميعاً، والطريق الوحيد إلى بر الأمان والسلام الدائم. درعا قلب سوريا النابض، وصوتها قوي، فلا بد من احترامه والعمل معه لبناء سوريا جديدة ديمقراطية تعددية لا مركزية.”
التحديات في درعا ليست أمنية وسياسية فقط
عبد الجليل المصري، أحد وجهاء المحافظة، يشير إلى أن التحديات التي تواجه درعا ليست مجرد أمنية أو سياسية، بل تشمل أبعاداً اجتماعية واقتصادية أثرت على المجتمع بشكل عميق. وأكد أن هناك رغبة صادقة وملموسة لدى وجهاء المحافظة وأبناءها لتعزيز الحوار والتفاهم بين جميع مكونات المحافظة لحماية أهاليها وبناء مستقبل يليق بهم وبالسوريين عموماً.
وأوضح المصري أن الوجهاء يسعون لفتح قنوات اتصال مع كل الأطراف والأفراد داخل المحافظة وخارجها، بغض النظر عن خلفياتهم أو انتماءاتهم، بهدف رفع مستوى التفاهم وتهدئة الأوضاع عبر لقاءات مبنية على العقلانية والحكمة بعيداً عن الانفعالات. وأضاف: “نسعى لتشكيل لجان مصغرة تضم ممثلين عن مختلف المناطق والفئات لتعزيز الوحدة، والتأكيد على أننا جميعاً أبناء هذه الأرض. بالطبع هناك منطق الانقسام والإقصاء الذي عمل على تعميق الفجوات، وهذا يجعل مهمة الحوار أصعب، لكننا نؤمن أنه السبيل الوحيد للإنقاذ، ونعمل بلا كلل على تحقيق ذلك.”
اقرأ/ي أيضاً: الساحل السوري وضرورة تفعيل دور المجتمع المدني لدعم السلم الأهلي والتنمية الاقتصادية
وأكد المصري أن نجاح الحوار الوطني يتطلب صراحة وشفافية من جميع الأطراف، وإرادة حقيقية للقبول بالآخر، وحلولاً واقعية، إلى جانب دعم المجتمع الدولي والإقليمي لتوفير المناخ المناسب، مع احترام سيادة سوريا ووحدتها. وقال: “في درعا، علينا تعزيز الثقة بين أبناء المحافظة، وهذا يحتاج جهوداً مستمرة من الجميع، خصوصاً الجهات الحكومية والمجتمع المدني. السلطة مطالبة اليوم بتعزيز مناخ الحوار والتقارب، ووضع حدٍّ لخطاب الكراهية تجاه بعض المكونات، وإجراء حوار وطني شامل يضمّ كل السوريين لوضع مسارات سياسية تؤسس لسورية الديمقراطية والدولة المدنية الحديثة التي نريدها.”
تتضح الصورة أن درعا ليست مجرد محافظة مرت بحروب وصراعات، بل مجتمع نابض بالحياة والإرادة في آنٍ واحد، يرفض أن يكون مسرحاً لتكرار أخطاء الماضي. الوجهاء والأهالي يؤمنون أن الحل الحقيقي والسليم يكمن في الحوار الوطني الشامل، الذي يشمل الجميع دون استثناء، ويعتمد على التفاهم والمصالحة وليس على الإقصاء أو التبجيل المفرط لنماذج فشلت سابقاً.
مستقبل سوريا بيد أبنائها، الذين يدركون أن الوحدة الوطنية والسلام الأهلي لا يتحققان إلا عبر نقاشات حقيقية قائمة على الشفافية والإرادة الصادقة لإنهاء الخلافات وطي صفحة الماضي.
هيثم الحوراني-درعا