تشهد محافظة درعا أوضاعاً اقتصادية ومعيشية متدهورة تُنذر بتداعيات اجتماعية عميقة، وسط تصاعد الأزمات التي تمسّ حياة الأهالي اليومية وتهدد استقرارهم. ورغم الجهود المبذولة عبر حملات التبرع والمساعدات الإنسانية، فإن الفجوة بين هذه المبادرات والواقع الفعلي على الأرض لا تزال واسعة، ما يفرض ضرورة البحث عن سياسات اقتصادية واضحة واستراتيجيات تنموية مستدامة تعالج الجذور الحقيقية للأزمة. في هذا السياق، يطالب أبناء المحافظة بوضع حلول واقعية قادرة على تحسين ظروفهم المعيشية وتلبية احتياجاتهم الأساسية.
تحديات اقتصادية متشابكة
يقول الدكتور ياسين عبد الصمد، الخبير الاقتصادي والتنموي من محافظة درعا، إن الأزمة الحالية “تتجاوز مجرد أرقام البطالة والفقر، إذ تمسّ البنية الاقتصادية للمحافظة في عمقها”.
ويشرح أن القطاعات الإنتاجية الأساسية، وعلى رأسها الزراعة، شهدت انهياراً حاداً خلال السنوات الأخيرة، رغم أنها كانت حتى وقت قريب المصدر الرئيس لدخل الأهالي. ويضيف: “تدهور البنية التحتية وارتفاع تكاليف المدخلات الزراعية وتراجع الأسواق المحلية جعل الكثير من المزارعين عاجزين عن الاستمرار في أعمالهم”. أما القطاع الصناعي – بحسبه – فهو “ضعيف للغاية”، ما يؤدي إلى غياب فرص العمل ودفع المزيد من السكان إلى الهجرة أو الاعتماد على المساعدات الخارجية.
اقرأ/ي أيضاً: إدلب تتابع اتفاق 10 آذار.. حوار سوري–سوري يعيد الأمل بتوحيد البلاد
ويرى الدكتور ياسين أن المساعدات التي شهدتها المحافظة كانت ضرورية كاستجابة طارئة، لكنها لا يمكن أن تشكّل أساساً للنهوض الاقتصادي المستدام، لأن “المشكلة الجوهرية تكمن في غياب خطط استراتيجية متكاملة تُبنى على فهم دقيق لواقع المحافظة واحتياجاتها”. ويضيف أن العديد من المشاريع التي أُطلقت “تفتقر إلى المتابعة والتقييم المستقل، مما يؤدي إلى هدر الموارد”، فضلًا عن “نقص الشفافية والمساءلة الذي يضعف ثقة المواطنين بالجهات المعنية”.
ويشدد على أن الخطوة الأولى نحو المعالجة تكمن في إعداد تشخيص شامل يبدأ من جمع المعلومات وتحليل الواقع الاقتصادي والاجتماعي بدقة، ثم وضع أهداف واضحة ضمن إطار زمني محدد، مع التركيز على القطاعات ذات الأولوية مثل الزراعة والصناعات الحرفية والخدمات المحلية. ويقترح في هذا الإطار “خلق بيئة جاذبة للاستثمار من خلال تحسين البنية التحتية وتبسيط الإجراءات الإدارية”.
ويضيف الدكتور ياسين: “يبقى القطاع الزراعي محوراً أساسياً للتنمية، ويمكن إطلاق برامج لدعم المزارعين عبر تقنيات الري الحديثة والبذور المحسّنة وتوفير التمويل الصغير”، مشيراً إلى أهمية “تشجيع الصناعات الصغيرة مثل تصنيع المنتجات الغذائية والحرف اليدوية التي تستثمر الموارد المحلية وتخلق فرص عمل جديدة”. كما دعا إلى تنشيط التجارة الداخلية وربط درعا بالأسواق الإقليمية من خلال تطوير شبكات النقل.
ويؤكد أن “السلطة اليوم مطالبة بوضع خطط تنموية حقيقية تعزّز الواقع الاقتصادي والمعيشي في عموم المحافظة”، موضحاً أن ملايين الليرات التي تدفقت إلى درعا مؤخرًا “لن تؤتي ثمارها ما لم تُدار ضمن رؤية اقتصادية جادة”. كما دعا إلى إنشاء آليات رقابية تشاركية تضمّ ممثلين عن المجتمع المحلي والجهات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني، إلى جانب نشر تقارير دورية عن سير المشاريع بما يعزز الثقة والشفافية.
ويختم الدكتور ياسين بالقول: “درعا قادرة على التعافي إذا ما وُضعت خطط واضحة وشفافة تركز على حقوق الأهالي وحاجاتهم. يجب أن يعمل الجميع بروح المسؤولية والمشاركة، فالوقت الآن للبناء لا للانتظار، لأن الاقتصاد القوي هو الأساس لاستقرار معيشي وسياسي مستدام”.
المتقاعدون… الفئة الأكثر تضرراً
الناشط المدني خالد العلمي، وهو متقاعد من محافظة درعا، يصف الوضع المعيشي في المحافظة بأنه “صعب للغاية”، في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية والسياسية في البلاد وتداعياتها التي لم تُعالج بجدية حتى اليوم.
اقرأ/ي أيضاً: الساحل السوري واللامركزية.. خيار الحل الشامل
يقول العلمي: “رغم الحملات الخيرية والتبرعات الأخيرة، لم يلمس المواطنون تحسّنًا حقيقيًا في حياتهم. ما تزال الكثير من الأسر تعاني من انعدام الاستقرار المعيشي، وأسعار السلع الأساسية ترتفع باستمرار دون وجود رواتب أو مصادر دخل كافية”. ويضيف أن “غياب السياسات الاقتصادية الواضحة وضعف البنية التحتية وارتفاع معدلات البطالة كلها عوامل تُبطئ أي تحسن ممكن”.
ويؤكد أن “المساعدات الإغاثية طيبة وضرورية، لكنها ليست كافية ولا يمكن أن تحلّ محلّ التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد”، مشيرًا إلى أن أغلب التبرعات “تذهب للإغاثة الفورية دون استثمارها في مشاريع تخلق فرص عمل أو تحسّن من البنية الاقتصادية”، كما أن “قنوات توزيع الدعم ليست شفافة دائمًا، مما يضعف ثقة الناس بالمبادرات”.
ويتحدث خالد عن معاناة المتقاعدين المدنيين والعسكريين، قائلًا: “المتقاعدون في درعا يعيشون وضعاً قاسياً؛ رواتبهم التقاعدية بالكاد تكفي لتغطية الحاجات الأساسية، والغلاء المستمر يجعلهم في وضعية حرجة. كثير منهم لا يملكون تأميناً صحياً ولا يحصلون على أي دعم إضافي، وهم فئة مهمّشة في السياسات العامة”.
ويرى خالد أن الحل يبدأ بتبنّي الحكومة الانتقالية خطة استراتيجية متكاملة لإعادة تأهيل القطاعات الاقتصادية الأساسية، ودعم الفئات الضعيفة بمخصصات تتناسب مع مستوى الغلاء، إلى جانب تشجيع الاستثمارات المحلية وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة لخلق فرص عمل تحدّ من البطالة.
ويختم حديثه قائلاً: “الواقع الاقتصادي والمعيشي في درعا سيئ للغاية، ويحتاج إلى حلول سريعة وجذرية. استمرار هذا التدهور لن يبقى مجرد أزمة معيشية، بل قد يخلق أزمات أمنية واجتماعية خطيرة”.
إن ما تعانيه محافظة درعا اليوم ليست أزمة طارئة بل نتيجة تراكمات طويلة من غياب التخطيط الاقتصادي الرشيد وضعف الإدارة والتنمية. ورغم الجهود الإنسانية المبذولة، تبقى الحاجة ماسّة إلى رؤية استراتيجية شاملة قائمة على الشفافية والمشاركة المجتمعية، تستهدف القطاعات الحيوية وتولّد فرص عمل حقيقية، خصوصًا للفئات الأشد ضعفًا كالمتقاعدين. فالنهوض بدرعا يتطلب تكاتف الجميع – حكومة ومجتمع مدني وأهالي – بإرادة واضحة تفتح الطريق نحو استقرار اقتصادي يعيد الأمل والأمان لأبناء المحافظة.
هيثم الحوراني-درعا

