تفرض التحولات السياسية والأمنية المتسارعة في سوريا إعادة التفكير بعمق في نماذج الحكم وإدارة الشأن العام، وبما ينسجم مع خصوصية المجتمعات المحلية وتنوعها. فقد أثبت النظام المركزي التقليدي، الذي احتكر القرار لعقود طويلة، قصوره عن مواجهة التحديات المعقدة التي عاشتها البلاد، وفشله في الاستجابة لمطالب الناس واحتياجاتهم. ومع تفاقم الفوضى وتراجع الثقة العامة بالمؤسسات، بات واضحاً أن استمرار المركزية الصارمة لم يعد قادراً على إنتاج الاستقرار أو إدارة التنوع المجتمعي المتعدد في سوريا.
في هذا السياق، تظهر اللامركزية بوصفها خياراً واقعياً وضرورياً لإعادة بناء الدولة على أسس أكثر عدالة وقدرة على احتواء الاختلافات. وتتجلى أهميتها بشكل خاص في محافظة السويداء التي تواجه تحديات مجتمعية وأمنية حساسة، وتحتاج إلى حلول مرنة تتلاءم مع تركيبتها الاجتماعية وتوازناتها الدقيقة. فاللامركزية في السويداء ليست مجرد توجه إداري، بل إطار لحماية النسيج الاجتماعي وضمان مشاركة المجتمع المحلي في صنع القرار وتعزيز الاستقرار.
اللامركزية كضرورة ملحّة للسويداء
المحامي المختص بالشؤون القانونية والإدارية، عصام اللباد، يرى أن “تطبيق اللامركزية في سوريا اليوم لم يعد خياراً، بل أصبح ضرورة حتمية بالنظر إلى حجم الفوضى وانعدام الاستقرار”. ويشير إلى أن اللامركزية تمثل إطاراً عملياً لإعادة بناء الدولة على أسس أكثر توازنًا من خلال تعزيز مشاركة المجتمعات المحلية في إدارة شؤونها، وتمكين المحافظات من لعب دور فاعل في التنمية وصنع القرار.
يقول اللباد إن المفهوم القانوني للامركزية يقوم على “منح المحافظات صلاحيات موسعة في الإدارة المالية والخدمية واتخاذ القرارات التي تتناسب مع واقعها الخاص، ضمن إطار وحدة الدولة وسيادتها”. ويؤكد أن هذه الصلاحيات تسهم في تعزيز مشاركة السكان في إدارة شؤونهم، وتخفف من الاحتقان الناجم عن تضارب المصالح أو تباين الأولويات بين المركز والمجتمعات المحلية.
اقرأ/ي أيضاً: حقوق المكونات في الساحل السوري.. التمثيل العادل أساس الاستقرار الاجتماعي
ويضيف أن الانعكاسات الأمنية للامركزية لا تقل أهمية، فهي “تمنح الإدارة المحلية قدرة على معالجة مشكلاتها الداخلية، ما يقلل الفراغ الذي تستغله الفوضى والعناصر الخارجة عن القانون”. ويرى أن ذلك ينطبق تحديداً على السويداء التي تحتاج إلى نموذج إدارة يراعي تركيبتها الدينية والعشائرية والاجتماعية، ويقدم حلولًا محلية لا يمكن للنظام المركزي توفيرها بالفاعلية نفسها.
ويتابع اللباد موضحاً أن اللامركزية تُعيد بناء الثقة بين الدولة والمواطن، عبر نموذج يقوم على المشاركة والشفافية، وهو ما يعزز شرعية المؤسسات المركزية ويحمي وحدة الدولة من مخاطر التفكك. ويختم بقوله: “اللامركزية ليست مجرد مطلب سياسي، بل هي آلية لإعادة الثقة وتحقيق العدالة التنموية وتعزيز الأمن السياسي، وتطبيقها يستلزم تعديلات تشريعية واضحة وواقعية تضمن تنفيذها على الأرض”.
نموذج للحل السياسي والاجتماعي في السويداء
من جانبه يؤكد الناشط السياسي كُميت سعد أن اللامركزية تمثل “الحل والأمل” للخروج من نفق الفوضى السياسية والأمنية التي تمر بها البلاد. ويشير إلى أن اللامركزية الحقيقية تعني تمكين المحافظات من إدارة شؤونها وفق خصوصياتها، مع استمرار الدور المركزي للدولة كضامن للوحدة والسيادة.
ويرى سعد أن السويداء، بما تحمله من تنوع اجتماعي وديني وعشائري، تحتاج إلى نموذج حكم مرن يدير الاختلاف ويحول التنوع إلى مصدر قوة لا إلى بؤرة توتر. ويقول إن توزيع الصلاحيات والموارد في إطار لامركزي “يساعد المجتمعات المحلية على إدارة شؤونها وتحسين الخدمات وتحقيق العدالة، ويقلل من الشعور بالتهميش الذي كان سببًا لنزاعات متكررة وحالة ارتباك إداري مزمنة”.
ويضيف أن اللامركزية تعزز ثقة المواطن بالدولة لأنها تمنحه صوتاً حقيقياً في إدارة حياته اليومية، وتجعله أقرب إلى دوائر صنع القرار. كما أنها تؤسس لهيكل حوكمة شفاف ومساءلة أكثر قربًا من المواطنين، ما يقلص فرص الفساد والاستبداد ويعزز الاستقرار على المدى الطويل.
اقرأ/ي أيضاً: العدالة الانتقالية في درعا.. مطلب مجتمعي لاستقرارٍ سياسي وإنساني دائم
ويختم سعد بالقول: “نحن في السويداء بحاجة ملحّة إلى نموذج لامركزي يعكس خصوصيتنا ويكرس علاقة تكاملية بين المركز والمحافظات. فلا إصلاح حقيقي من دون توزيع عادل ومنظم للسلطة، يحقق ديمقراطية فعالة ويُنقذ البلاد من أزمات المركز المثقل بالفوضى”.
تظهر تجربة السويداء ومطالب مجتمعها أن اللامركزية تمثل مساراً استراتيجياً لإعادة بناء الدولة السورية على أسس متوازنة وشاملة. فاللامركزية ليست مجرد نقل للصلاحيات، بل إعادة توزيع للسلطة بما يعزز المشاركة الشعبية، ويحقق عدالة تنموية، ويعيد وصل ما انقطع بين المجتمع والدولة.
ويمكن اعتبار النموذج اللامركزي في السويداء مثالًا واقعياً للحل الوسط الذي يحمي وحدة سوريا ويصون تنوعها السياسي والاجتماعي، ويضع حداً للفوضى والتهميش الذي تسببت به المركزية الصارمة. ومن خلال حوار وطني شامل وتخطيط مدروس، يمكن للامركزية أن تكون الأساس لبناء سوريا جديدة مستقرة تمنح مجتمعها القدرة على المشاركة في صنع مستقبله.
عمر صحناوي- السويداء
