في ظل التحديات العميقة التي تمرّ بها الساحة السورية، باتت اللامركزية اليوم ضرورة ملحّة لإعادة بناء الدولة وتعزيز استقرارها السياسي والأمني، لا سيما في مناطق الساحل الحيوية وباقي المحافظات ذات التنوع الاجتماعي والثقافي. بعد سنوات من النزاع والانقسامات، أصبح واضحاً أن النظام المركزي التقليدي لم يعد قادراً على استيعاب هذا التنوع أو تلبية الاحتياجات المحلية المتعددة، ما أدى إلى تفاقم الإحباط الاجتماعي والاحتقان السياسي. في هذا السياق، تُطرح اللامركزية كإطار تنظيمي وسياسي يمنح المجتمعات المحلية القدرة على المشاركة الفاعلة في صنع القرار وإدارة مواردها وتنمية حياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بما يتناسب مع خصوصياتها الفريدة.
وبهذا المعنى، فإن اللامركزية ليست مجرد خيار إداري، بل خطوة استراتيجية حيوية نحو بناء نموذج حكم ديمقراطي يحفظ وحدة الدولة ويعزز استقرارها، عبر توزيع السلطة وتفعيل المجتمعات المحلية كمكونات أساسية وفاعلة في مسيرة التحول الوطني الشامل.
اللامركزية لتعزيز الاستقرار في الساحل السوري
عفراء درويش، باحثة سياسية وناشطة مدنية من مدينة جبلة، ترى أن اللامركزية تشكل ركيزة أساسية لأي حل سياسي مستدام في سوريا. وتشير إلى أن التنوع الاجتماعي في البلاد يستوجب توزيع السلطات بشكل أوسع، ما يسمح للمناطق بإدارة شؤونها بما يتناغم مع خصوصياتها المحلية، ويقلل من الاحتكاك مع المركز ويتيح إشراك المجتمعات المحلية في صنع القرار.
اقرأ/ي أيضاً: درعا.. ضرورة تكريس الحلول السياسية عبر الحوار الوطني الشامل
وتؤكد درويش أن الساحل السوري يمتاز بتركيبة اجتماعية واقتصادية فريدة، وأن الاحتكار المركزي للقرار السياسي كان يؤدي إلى فجوات اجتماعية وأمنية. لذلك، تتيح اللامركزية الحقيقية للمجالس المحلية والجهات المدنية الرقابة الفعالة على الموارد وإدارة الشأن المحلي بشفافية، ما يعزز الانتماء ويحد من النزاعات حول الهوية والسلطة، وبالتالي يدعم الاستقرار الأمني. وتشدد على ضرورة وجود إرادة سياسية واضحة وتعديل دستوري يحدد صلاحيات حقيقية للسلطات المحلية، مع التركيز على بناء قدرات إدارية ومالية لهذه المجالس لتتمكن من خدمة المواطنين بكفاءة.
وتضيف درويش أن كل منطقة في سوريا لها خصوصياتها، والساحل يتمتع بمميزات اقتصادية لم تحظَ بالاهتمام الكافي من الدولة المركزية، وهناك تأثيرات خارجية تستغل ضعف الإدارة المحلية. لذلك، تحتاج اللامركزية إلى ضمانات أمنية وسياسية تعزز من هيبة مؤسسات الحكم المحلي وتحميها من التدخلات الخارجية أو النزعات المركزية الجديدة. ومن هذا المنطلق، تُعتبر اللامركزية أداة لتوزيع القوة بعيداً عن التركيز في أيدي قلة، وتخلق أرضية لحوار وطني شامل عبر مؤسسات محلية تمثل مصالح المواطنين. في ظل تعدد الفاعلين في سوريا، توفر اللامركزية إطارًا لتقليل التوترات وتعزيز التعاون بين مكونات المجتمع المختلفة بدلاً من الصراع على حكم مركزي يهمّش الآخرين، كما أنها تحفظ وحدة الدولة من خلال تمكين المواطنين لا من خلال فرض الهيمنة.
وتختم درويش بالقول إن اللامركزية ليست خياراً إدارياً فحسب، بل خيار سياسي وأخلاقي لبناء سوريا جديدة مزدهرة وديمقراطية ومستقرة، داعية الجميع إلى تجاوز الحوارات التقليدية والتركيز على توسيع المشاركة الحقيقية ومنح الشعب حقه في إدارة مصيره محلياً، ما يفتح الباب لحل سياسي شامل يعيد الأمل لسوريا وأهلها.
اهتمام متزايد باللامركزية على الساحة السورية
ناظم خضور، باحث سياسي من اللاذقية ونشط في تنظيم اللقاءات والمؤتمرات في الساحل، يرى أن اللامركزية ليست مجرد خيار إداري، بل ضرورة سياسية واجتماعية في المرحلة الراهنة. ويؤكد أن المؤسسات المركزية التقليدية فشلت بعد عقد من الأزمة والحرب في تلبية احتياجات المواطنين في المناطق المختلفة، مشيراً إلى أن منح المناطق صلاحيات أوسع في اتخاذ القرارات المتعلقة بتنميتها وخدماتها يعيد الثقة بين المواطن والدولة، ويعكس ما ركزت عليه النشاطات السياسية في الساحل السوري.
ويبرز خضور خصوصية الساحل السوري بما يمتلكه من تنوع اجتماعي وثقافي، مؤكداً أن جميع مناطق سوريا تتسم بتنوع مشابه يتطلب استجابة مخصصة، بينما غالباً ما يغفل النموذج المركزي هذه الفروقات. ويضيف أن المشاركة المحلية تعزز الشعور بالانتماء وتحد من الإقصاء والهامشية، كما أن توزيع السلطات محلياً يقلل من تراكم التوترات ويضمن القدرة على ضبط الأزمات قبل تفاقمها.
اقرأ/ي أيضاً: حمص.. دعوات لتعزيز السلم الأهلي نحو سوريا ديمقراطية تعددية
ويشير خضور إلى أن الخطوة الأولى لتطبيق اللامركزية تكمن في تعديل الإطار الدستوري والتشريعي لضمان صلاحيات فعلية للمجالس المحلية، مع بناء قدرات إدارية ومالية تمكنها من التخطيط والتنفيذ، إضافة إلى إشراك المجتمع المدني والمنظمات المحلية في مراقبة الأداء وصنع القرار لضمان النزاهة والمساءلة. ويخلص إلى أن اللامركزية تعزز شرعية الحكم المحلي وتحد من الفوضى المسلحة من خلال الحوار السياسي والمشاركة الحقيقية، لتصبح رافعة لإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية توزع السلطة سلمياً وتحد من التدخلات الخارجية.
ويختم خضور بالقول إن اللامركزية ليست حلاً سحرياً، فهناك تحديات مثل مقاومة النخب التقليدية وخلافات القدرات بين المناطق، لكنها تظل حقاً أساسياً لكل مواطن، ويمكنها أن تؤسس لسلام دائم. ويضيف أن استمرار النظام المركزي سيزيد من الأزمة، بينما اللامركزية تمثل مفتاحاً لإعادة بناء سوريا موحدة وعادلة.
في ضوء ما سبق، تتضح أهمية اللامركزية كركيزة لعلاج هشاشة الدولة السورية وتعزيز استقرارها السياسي والأمني، خصوصاً في الساحل وباقي المناطق المتنوعة، فهي تمنح المجتمعات المحلية فرصة إدارة شؤونها وفق خصوصياتها، وتفتح المجال لمشاركة شعبية حقيقية تقلص الاحتقان وتعزز الانتماء، شرط وجود إرادة سياسية حقيقية وإصلاح دستوري يضمن توزيعاً عادلاً للصلاحيات، مع بناء مؤسسات محلية شفافة وقادرة على المساءلة. وهكذا تصبح اللامركزية منطلقاً لحل سياسي شامل يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن، ويضع أسسًا متينة لسوريا مستقرة ديمقراطية، تعددية ولا مركزية.
معن الجبلاوي- اللاذقية