مع اقتراب موعد انتخابات مجلس الشعب السوري، تتجدد التساؤلات والهواجس حول طبيعة هذا الاستحقاق السياسي في ظل واقع معقد ومشحون بالتحديات التي تمس جوهر الديمقراطية والحريات في سوريا. تأتي هذه الانتخابات بين محاولات السلطة ترسيخ نموذج حكم مركزي مستبد، وبين آمال محدودة في بناء دولة مدنية تعددية. فلا يمكن فصل هذا المسار عن حالة الإلغاء شبه الكامل للحريات والهيمنة المطلقة للنظام، الذي يسعى إلى تثبيت شرعيته عبر آليات مصممة لضمان استمراريته، لا عبر منجز ديمقراطي حقيقي، وهو ما يدفع المتابعين إلى التساؤل عن مدى إمكانية أن تشكل هذه الانتخابات نقطة انطلاق لمسار سياسي ناضج.
وفق النموذج الانتخابي الجديد المعتمد لمجلس الشعب، يتضح أن الشرعية الديمقراطية مفرغة من مضمونها. إذ ينص النظام على تعيين 70 عضواً من أصل 210 بقرار مباشر من رئيس الانتقالي، مقابل انتخاب 140 عضواً عبر هيئات انتخابية غير مباشرة. هذا المزج بين التعيين والانتخاب يفرغ العملية من جوهرها، إذ يقلص من التمثيل الشعبي المباشر، ويضعف مشروعية المجلس لكونه لا يعكس إرادة المواطنين بشكل حر ومستقل. فالديمقراطية الحقيقية تقوم على انتخاب مباشر وشفاف يمنح الشعب الحق في اختيار ممثليه، بينما الآلية الحالية تعبر عن نموذج سلطوي يستخدم أدوات الدولة لضمان تحكم شبه مطلق بالسلطة التشريعية.
إلى جانب ذلك، فإن غياب بعض المحافظات أو تقليص تمثيلها، سواء لأسباب أمنية أو سياسية، يضرب في العمق مبدأ المواطنة المتساوية. فعندما تصبح العضوية في المجلس حكراً على مناطق محددة، أو يتم تهميش محافظات أخرى، يتولد شعور بالإقصاء والاستبعاد من دائرة القرار الوطني، ما يؤدي إلى استقطاب مجتمعي ويغذي الانقسامات الداخلية، ويضعف فرص الوحدة الوطنية والتعايش.
اقرأ/ي أيضاً: العنف لا يبني دولة… مراجعة لمآلات الحكم الأمني في سوريا
وعلى الرغم من أن مجلس الشعب، في المفترض، مؤسسة رقابية وتشريعية، إلا أن المجلس المرتقب يفتقر عملياً إلى أي استقلالية، ويتحول إلى أداة تُكرّس تركيز القرار السياسي بيد السلطة التنفيذية. فالتعيينات المباشرة من الرئيس، والآليات الانتخابية الموجهة، تؤدي إلى مجلس متجانس مع توجهات السلطة، خالٍ من الأصوات المعارضة أو النقدية. كما أن اللجان الفرعية التي تشرف على الانتخابات تدار بأسلوب يضمن الهيمنة السياسية، فتتحول إلى أدوات رقابة أكثر منها جهات محايدة، وتفرض مرشحين مختارين سلفًا، ما يصادر الإرادة الشعبية ويقوض الثقة العامة بالعملية السياسية.
هذه الصورة تعكس هشاشة التجربة الديمقراطية في سوريا، بل وتؤكد استمرار هيمنة النظام الشمولي ورفضه لأي شكل من أشكال التعددية أو تداول السلطة. فقد كان يُنتظر من الانتخابات أن تتيح مساحة للتعبير الشعبي الحقيقي، غير أنها بدت أقرب إلى إجراء بروتوكولي هدفه إضفاء شرعية شكلية على سياسات السلطة القائمة، لا الاستجابة لتطلعات الناس إلى بناء دولة مدنية حديثة تحترم الحقوق والحريات.
إن تكريس النظام الشمولي عبر المجلس الجديد يعمّق أزمة الشرعية السياسية، إذ يقوم على استراتيجيات سيطرة مباشرة مدعومة بأذرع مؤسساتية وأمنية تستبعد المعارضة وتفرض تبعية كاملة. ولعل انخفاض نسب المشاركة الفعلية في كثير من الدوائر الانتخابية، مقارنة بما يُعلن رسمياً، يعكس بوضوح حالة فقدان الثقة الشعبية في العملية برمتها، وفي إمكانية أن تشكل مدخلاً لأي تحول سياسي.
وبالتالي، فإن الانتخابات المقبلة ليست سوى حلقة جديدة في مسلسل طويل يستخدم فيه الحكومة الانتقالية واجهة الديمقراطية لتثبيت بقائها، متجاهلةً تداعيات ذلك على النسيج الاجتماعي والسياسي السوري. فالمشهد الانتخابي محكوم بعوامل القمع وتكميم الأفواه وتقييد الفاعلين السياسيين المستقلين، ما يعيد إنتاج نمط الحكم السلطوي القائم، ويزيد من حدة الاستقطاب الداخلي، ويحول دون أي تسوية سياسية ذات معنى. هذه المعادلة تجعل من الانتخابات أداة لتأجيل الاستحقاقات الحقيقية بدلاً من أن تكون مدخلاً لإصلاح سياسي جاد.
اقرأ/ي أيضاً: كارثة طبيعية وإنسانية.. حرائق الغابات في الساحل السوري وجرح السوريين النازف
لا يمكن فصل هذه العملية عن واقع غياب الحريات السياسية وتراجع فرص بناء دولة مدنية حديثة. فهي تؤكد أن الحكومة ماضية في مسارها التعنت السياسي، وأن معايير الديمقراطية الحقيقية لا تزال مؤجلة إلى أجل غير معلوم. هذا الوضع يفتح الباب لمزيد من الانقسامات والاحتقانات، ويضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية مراجعة أساليب تعامله مع القضية السورية، عبر دعم حلول تقوم على مشاركة حقيقية وأفق ديمقراطي واقعي.
وفي المحصلة، فإن انتخابات مجلس الشعب المرتقبة ترسم صورة واضحة لاستمرارية النظام الشمولي، الذي يصر على إحكام قبضته على القرار السياسي، متجاهلاً الأصوات المعارضة والمستقلة، ومكرساً واقعاً انتخابياً لا يعكس إلا تعميق الفجوة بين السلطة والشعب. إن هذا الاستحقاق، كما يبدو، ليس سوى تجديد للسلطة القائمة، لا خطوة نحو تمثيل حقيقي للمجتمع السوري، ما يضاعف أزمة الشرعية ويفاقم انسداد الأفق السياسي. وبذلك يبقى الطريق إلى تحول ديمقراطي حقيقي رهيناً بتهيئة مناخ سياسي جديد يقوم على حرية التعبير، وتداول السلطة، واحترام حقوق الإنسان، وإرادة صادقة لإعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس المواطنة والمشاركة.
بلال الأحمد – إدلب