وفق سياق ثابت، تسير يوميات الأزمة السورية، دون تطورات جوهرية تُحقق ما يصبو إلية السوريون، فالغالبية تنتظر تحولات سياسية تُفضي إلى انفراجات اقتصادية، لا سيما أن حالة الحراك السياسي الذي شهدته سوريا مؤخراً، قد أسس لمناخ سياسي طالما انتظره السوريون، لكن من الواضح أن السلطة في دمشق، هي خارج أي منطق سياسي، ولا تزال تُقارب عناوين الأزمة السورية، وفق منظورها الخاص، وأهوائها السياسية البعيدة عن الواقع، إضافة إلى اعتمادها على خطاب سياسي وإعلامي، مؤطراً بسرديات تتماهى مع منظورها للأزمة في البلاد. كل هذا يُبعد عناوين الحل السياسي في سوريا، عن التطبيق الواقعي، ويُبقي أوراق الملف السوري، بيد السلطة الحاكمة، دون وضع محددات جديدة، تأخذ بعين الاعتبار واقع السوريين المُر.
في ظل هذا الواقع، ومع استمرار حالة الحراك السياسي، عادت ما يُسمى بـ “هيئة التفاوض” إلى الاجتماع مجدداً، بعد انقطاع سنوات عن المشهد السياسي في سوريا، لتعود إلى ذات الخطاب الإقصائي، والذي يقوم بتحييد مكونات سورية أصيلة، ويسير وفق ما خُطط له من قبل القوى المستفيدة من استمرار تأزم الأوضاع في سوريا، ولعل جُل التحركات السياسية الداخلية والخارجية، كانت تصب في إطار سياسي جامد، بمعنى أن القوى المؤثرة في الملف السوري، إنما تبحث فقط عن مصالحها، لكن ورغم ذلك، تُطل من عمق الأزمة مبادرة وطنية سورية، أطلقتها الإدارة الذاتية في شمال سوريا، لتكون بارقة أمل في مشهد سياسي عانى منه السوريون الكثير، ولا زالوا.
شاهد/ي أيضًا: شمال غرب سوريا.. فلتان أمني وتغلغل عناصر “داعش” في صفوف “الجيش الوطني”
في ذات السياق، كان لرأي السوريين في مشهد سوريا السياسي، بُعداً يُمكن التأسيس عليه، وبناء مشهد سياسي جديد، مُغاير لتوجهات السلطة وممارساتها، والواضح أن السوريين اليوم، لا سيما فئة الشباب، باتت تنظر وفق منظور سياسي جديد للأحداث في سوريا، فضلاً عن طرح مقاربات من خارج صندوق السلطة.
ربطاً بما سبق، رصدنا آراء بعض الإعلاميين والمُثقفين السوريين تُجاه مبادرة الإدارة الذاتية، وجُل المسارات السياسية في سوريا. الأنسة “رانيا م”، العاملة في إحدى المؤسسات الإعلامية الحكومية في دمشق، تقول، “نحن كإعلاميين على مسافة قريبة من غالبية السوريين، والأهم أن طبيعة عملي تتطلب أن أكون على مسافة قريبة من الطلاب السوريين في الكليات والمعاهد، ولا شك بأن غالبية الطلاب لديهم مخاوف وقلق من الأيام القادمة، ومن خلال موقعي أرصد وعن قرب، آراء الطلاب لكن في الحلقات الضيقة، إذ إن غالبية الطلاب الذين أتناقش معهم، يرغبون بحل سياسي، ولا يرغبون صراحة بالسفر بعد تخرجهم، وبصرف النظر عن مخاوف الطلاب، لكن هناك رأي عام رصدته في الأيام الماضية، ويرتكز على أن غالبية الطلاب يرغبون في تغير الواقع السياسي في سوريا، ويؤمنون بالحوار مع الجميع، لكن مع تحفّظهم على بعض الجهات السورية وتحديداً التي تطلق مواقفها من الخارج.
تتابع رانيا وتقول، “لا أخفي عليكم أنه وأثناء طرح مبادرة الإدارة الذاتية التي تتعلق بالحل السياسي، كنت خائفة من ردات فعل الطلاب، لكن تفاجأت بحجم التفاعل، حتى أن مجموعة من الطلاب السوريين قالوا لي طالما أن المبادرة خرجت من سوريا ومن جهة سورية تؤمن بالحوار كمخرج للأزمة السورية، فلا بأس في ذلك، وعند سؤالهم عن رأيهم بتلك المبادرة، قالوا نأمل أن تجد هذه المبادرة طريقها إلى عقل الدولة والفرقاء السوريين لمناقشتها، وبما أن هذه المبادرة وغيرها تنادي بالحل الديمقراطي السلمي، وطالما أنها من أشخاص سوريين فنحن كطلاب مستعدين لمناقشتها، فهي مبادرة وطنية تسعى للوصول إلى حل سياسي، لكن تبقى المشكلة الأساسية بعقلية السلطة وطريقة تعاطيها مع تلك المبادرات، لكن بإمكاننا تشكيل رأي عام بيننا كطلاب، وإن كان ذلك قد يعرّضنا للمساءلة، لكن ما يهمنا كطلاب وعلى أبواب التخرج، أن نصل إلى حل سياسي، يضمن لنا مستقبل أفضل”.
وتقول رانيا، “حقيقة تفاجأت بحجم التجاوب والتفاعل من قبل الطلاب، ولاحظت بشكل قوي، أن الطلاب السوريين يحملون فكرا منفتحا ويرغبون بالنقاش مع الجميع، وهم على قناعة تامة، بأن السلطة والحزب الحاكم باتوا الحلقة الأضعف، فاليوم كل المعطيات تؤكد بأن الجميع يرغب بالحل السياسي، فما هو المبرر لقيام السلطة باقصاء رأي الغالبية من السوريين، بذلك ستكون السلطة أمام أمر واقع لا مناص منه، وعليها بالحوار والقيام بتعديلات سياسية.
في جانب آخر، يتعلق بالمناخ السياسي في سوريا وخارجها، يقول “هيثم أ ش” صحفي في جريدة رسمية بدمشق، “الحقيقة أن هيئة التفاوض باتت خارج أي تأثير، خاصة أنها لا زالت تحمل نفس العقلية الإقصائية التي تتعامل بها السلطة مع السوريين، ومع أي مبادرات سياسية، ثم أن هيئة التفاوض كجسد معارض ينبغي أن تكون حاملة هموم السوريين، لا أن تكون حاملة لأجندات تركية أو أوروبية، ويجب من موقعها أن تفاوض باسم السوريين، وأن تضم غالبية الأطياف في الداخل والخارج”.
وحول عدم جدّية “هيئة التفاوض”، يقول هيثم، “دليل عدم جدية هيئة التفاوض أعتقد أنها واضحة خاصة أنها أثناء الاجتماعات لم تأتي على ذكر أي مبادرات وطنية في داخل سوريا، لا سيما مبادرة الإدارة الذاتية، والتي تحمل بصمات سورية وطنية خالصة، كما أن الإدارة الذاتية تعمل في سياق وطني لا إقصائي لأي جهة، وتحمل الهم الوطني، وبالتالي لماذا لم تقم هيئة التفاوض بذكر هذه المبادرة أو غيرها وهل تريد الاستئثار بالحل السياسي وحدها؟، والأهم أن هيئة التفاوض وعدم ذكرها لمبادرة الإدارة الذاتية أو حتى العمل على تمثيلها في سياق هيئة التفاوض، إنما تعبر عن مشروعها الإقصائي، فنحن كسوريين تعبنا من هذا الإقصاء الذي مورس علينا من قبل السلطة وعلى مدى سنوات، واليوم تأتي هيئة التفاوض لتكمل مهمة السلطة”.
ويختم هيثم قائلاً، “بكل صراحة أنا كصحفي وأعمل في جريدة رسمية هناك نقاشات حادة يومياً وكسر لبعض المُحرمات التي كان من الصعب النقاش بها في الدوائر الرسمية، لكن اليوم نتناقش ونختلف، لأن الحالة السورية العامة تتطلب منا كمثقفين وصحفيين أن نحمل الهم الوطني ونطرح كل النقاط الخلافية، واليوم ننظر لاي مبادرة وطنية بنظرة مختلفة عن السابق لأن الوضع السوري يتطلب حل سريع، في النهاية كلنا بحاجة لحل، لكن اعتقد من موقعي الصحفي أن مبادرة الإدارة الذاتية يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار من قبل السلطة، ويتم مناقشتها طالما أنها تحمل الهم الوطني وتطرح نقاط سياسية هامة، والأهم أنها لا تُقصي أي مكوّن سوري.
وحول جوهر المبادرات الوطنية، وضرورة أن تعمل السلطة في سياق جديد، يقول الصحفي والمحلل السياسي “محمد ع”:
“لا بأس أن ننظر للأحداث في سوريا بنظرة موضوعية تعتمد على المنطق، فاليوم لابد من وضع محددات جديدة تتعلق بكل شي في الملف السوري، وعلى صانع القرار السوري أن يدرك حقائق الأمور المتغيرة، سواء في الداخل أو على المستويات الإقليمية والدولية، من هنا على السلطة في دمشق أن تعتمد على خطاب جديد، ونقول هنا ينبغي أن يكون هذا الخطاب متوافقاً مع حالة الانفتاح العربي بالعموم على الدولة، والأهم أن يتم اعتماد أي مبادرة سياسية طالما أنها لا تُقصي الآخرين من التيارات السياسية أو الأحزاب وحتى الأشخاص الطبيعيين والمتحدثين بالسياسة.
شاهد/ي أيضًا: فصل جديد من فصول الانتهاكات المتكررة في شمال غرب سوريا
ويتابع محمد، “أعتقد أن سوريا اليوم تمر بواقع مختلف وتحديداً في الجانب الاقتصادي، ومع حالة الانفتاح ينبغي أن تسير الأمور باتجاه الافضل اقتصادياً، بمعنى أن السوريين يريدون اليوم تحسين مستوى المعيشة، وقد لا تعنيهم التطورات السياسية، وفي جانب آخر نحن كسوريين نترقب باهتمام التطورات السياسية ومدى انعكاسها على الواقع الداخلي، لكن للأسف نحن أمام مشهد غريب تعتمد عليه الدولة”.
وحول مبادرة الإدارة الذاتية، يقول محمد، “فيما يتعلق بمبادرة الإدارة الذاتية في الحل السياسي لا أخفيك أنني تابعت هذه المبادرة باهتمام وتمنيت على بعض الزملاء في الصحف الرسمية مناقشتها من أجل سوريا فقط، لأنني وجدت بهذه المبادرة نقاط يمكن الاعتماد عليها وبناء واقع سياسي جديد ومؤسس لسورية جديدة، وقد نختلف مع بعض نقاط المبادرة لكن لا ضير في ذلك، لأننا نناقش مشروع سياسي خاص بسوريا، واعتقد أن الوقت قد حان وتحديداً في هذا التوقيت الحساس، الذي تمر به سوريا للتواصل وفتح قنوات الاتصال مع الكرد في شمال شرق سوريا، ومناقشة مشروعهم، طالما أنه لا يتعارض مع مفهوم الدولة، والأهم أن مبادرة الإدارة الذاتية قابلة للتطبيق والتحقق بما أنها تنادي بوحدة سوريا وليس بالانفصال، من هنا أقول بما أن الدولة هي حاضنة الجميع وبما أن الكرد مكون سوري مهم بل وأساسي في سوريا ينبغي على الدولة إعادة تفكيرها ومفهومها في ما يتعلق بمبادرة الإدارة الذاتية المنفتحة على جميع السوريين.
مما سبق، يبدو أن المثقفين السوريين، وكذلك غالبية السوريين، باتوا اليوم في واقع مُخالف للسلطة في الجوهر والمضمون، ففي حين تعمل السلطة على تكميم الأفواه، ومنع التحليق خارج أهواءها السياسية، ثمة أصوات تُغرد خارج سياسات السلطة، وتطالب بالحوار مع الجميع، لوضع أسس جديدة، عنوانها وحدة سوريا والسوريين، لكن يبقى التساؤل الأهم، إلى متى ستبقى السلطة في دمشق بعيدة عن ما يريده السوريون؟، فالقوة والهيمنة والتسلط ومصادرة الآراء، لا تبني الوطن، وما يريده السوريون هو الانتهاء من سياسة الإقصاء التي تمارسها السلطة وكل من يدور في فلكها.
عمار المعتوق- دمشق