مسكونة بعبق التاريخ. تتميز دمشق القديمة بأسلوب العمارة الدمشقية الشهيرة بطرازها الفريد، ويسمي السكان المحليون بيوت دمشق المبنية على الطراز الدمشقي القديم “بيوت عربية”، والتي تمتاز بفناء داخلي واسع تحيطه الغرف وتتوسطه بحرة جميلة، ويتكون من طابق أو طابقين فيه الكثير من الفنون المعمارية، وتطل على الفناء المليء بأحواض النباتات والأزهار وتتوسطه البحرة الشامية الدمشقية الشهيرة، وتحتوي المدينة الكثير من مساجد وجوامع وكنائس ومدارس تاريخية ومقامات وأضرحة وقصور وشوارع مرصوفة بالحجارة وحارات مسحورة مسكونة بعبق التاريخ.
دمشق القديمة تضم العديد من الأحياء العريقة والأسواق والخانات والمساجد والكنائس والمدارس والشوارع المرصوفة والقلعة والسور الروماني، والجدير بالذكر أنها تضم معظم آثار مدينة دمشق. في حين أن دمشق القديمة لا تشكل سوى حوالي 5% من مساحة مدينة دمشق الحالية، وتمتاز الآثار التاريخية في المدينة بأنها تعود لعدة فترات وحقب زمنية من الحضارات التي تعاقبت على المدينة العريقة التي يعود تاريخ بنائها إلى قبل آلاف السنين.
شاهد/ي: ما بعد “انتصار السلطة”.. المنشآت الحيوية السورية تُباع !
تاريخيا تعرضت العديد من معالم دمشق القديمة قبل مئات السنين للتدمير بفعل الزلازل والحروب، حيث دُمّرت أجزاء من دمشق القديمة في فترات تاريخية سابقة، وكان في كل فترة يُعاد بناء وترميم المباني المتضررة، لذلك نجد أن العديد من المعالم التي تعود إلى أزمنة بعيدة نسبياً وصلت إلى العصر الحديث بشكل جيد، وخلال الحرب العالمية الثانية والانتداب الفرنسي لسوريا كذلك تعرضت بعض الأوابد والأسواق للتخريب وأعيد ترميمها، لذلك تجد معالم المدينة العريقة وشوارعها وبواباتها وأسواقها محافِظة على قدر كبير من عبق التاريخ.
كل ذلك، كان سبباً أساسياً في انضمام سوريا إلى منظمة اليونسكو في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1946، وصادقت على اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي في 13 آب/ أغسطس 1975، مما جعل مواقعها التاريخيّة مؤهَّلة لإدراجها في القائمة، كما كانت عضوًا في لجنة التراث العالمي لمرّة واحدة (1989-1995)،وكانت مدينة دمشق القديمة أول موقع أُدرِجَ في سوريا في الدورة الثالثة للجنة التراث العالمي، التي عُقِدَت في عام 1979.
أما اليوم تتعرض دمشق القديمة، لـ محاولات طمس هويتها التاريخية، واستبدالها بمشاهد تناسب السلطة وحلفاؤها وتحديداً الإيرانيين، ونحن هنا لا نُلقي التُهم جُزافاً، فما وصلنا إليه أثناء إعداد هذا التقرير، يؤكد بأن محاولات السلطة والإيرانيين، لا تتوقف للاستيلاء على معالم وأسواق دمشق القديمة، لتغيير هويتها، وهذا ما أكده أيضاً “أبو رشدي” الرجل الشامي العتيق الذي تجاوز عمره 82 عاماً، وهو يتكلم بُحرقة عن حريق سوق ساروجة التاريخي، والضغوط التي تعرض لها هو وأولاده من اجل بيع ببتهم الدمشقي في حي سوق ساروجة، وما يجاوره من محلات، ورثها عن أجداده.
“كرمى لعيون الايرانيين” يقول العم أبو رشدي، ويسرد قصته التي خالطتها الدموع، ويقول، قبل حوالي السنتين عُرض علي أن أبيع بيتي في حي سوق ساروجة الذي ورثته عن أبي، لكنني رفضت وبشدة، وهناك الكثير من الضغوط التي تعرض لها أولادي، من أجل إجبارهم على البيع، إلى أن وصل الأمر إلى استدعائي من قبل مديرية السياحة في دمشق، وعُرض علي مبلغ وقدره 2 مليار ليرة سورية، لكنني رفضت وبشدة، فهذه الأماكن لا تُقدر بثمن.
يقول أبو رشدي، الكثير من أصدقائي في سوق الحميدية والحريقة، أيضاً تعرضوا لنفس الضغوط، لكنهم رفضوا أيضاً، إلى أن تطورت الأمور أكثر وأكثر، مع محاولات الهيئة الثقافية في المستشارية الاستيلاء على منزلي، من خلال التودد إلي، والقول بأنهم يحتاجون المنزل لأغراض ثقافية وغايات ترميمية للمحافظة على طابع دمشق العمراني، وبعد الرفض يقول أبو رشدي، صحونا على حريق كبير يلتهم الأبنية والمحلات في حي سوق ساروجة، وهنا يصمت.
منذ بداية الحراك في سوريا، كان واضحاً حجم التوسع الإيراني داخل دمشق، خاصة بعد قيام السلطة باستدعاء الايرانيين للدفاع عنها، وقد كانت في هذا الإطار، النوايا الإيرانية واضحة المضمون والأهداف، لجهة احتلالها أهم وأبرز معالم دمشق القديمة، والتي تعكس الطابع السوري العريق، وذلك عن طريق إغراء أصحاب تلك المحال والمنازل بالأموال لبيعها والتنازل عنها، ومعظم تلك المحاولات باءت بالفشل، كما حدث ذلك مع تجار سوق حي ساروجة، وغيره من أسواق دمشق القديمة، والذين دفعوا ثمن رفضهم هذا، حريقاً نال من رزقهم وأموالهم، لكنه لم ينل من كرامتهم وإخلاصهم لتاريخهم.
الإيرانيين وصلوا الى دمشق القديمة، تحت ذريعة زيارة المقامات الدينية داخل أحياء وأسواق دمشق القديمة، وهذا الأمر لا يُعد حديث العهد، بل كان لـ حافظ الأسد، دوراً كبيراً في السماح للإيرانيين بالتمدد داخل دمشق القديمة، ونتيجة لذلك، شهد الدمشقيون مظاهر غريبة وطقوس دينية لم يعهدوها، حيث كان الايرانيين يسيرون في داخل المسجد الأموي وفي محيطه، وتحديداً تلك المنطقة التي تضم أغلب الأسواق التاريخية العريقة، ويقومون بطقوسهم في مناسبات دينية تخصهم، وقد ازدادت تلك المظاهر والطقوس يوماً بعد يوم، حتى وصول العراقيين “الشيعة” إلى دمشق إبان حرب العراق عام 2003، وبدأوا دخول الأسواق من خلال “البسطات” التي ملأتها، ومن ثم استئجار المحال وشراؤها أحياناً، وذلك كله بإشراف مشروع إيراني اتضحت أهدافه فيما بعد.
في دمشق القديمة ثمة جريمة كُبرى يتم رسمها من قبل السلطة والإيرانيين. هي جريمة بحق سوريا أولاً، وتاريخها وشعبها ثانياً، فاليوم وعند السير في أزقة دمشق وأسواقها، يتضح جلياً أن هناك طابع جديد لم تألفه عيون السوريين عموماً والدمشقيون على وجه الخصوص، ولعل التهديد الأكثر أهمية، ما تواجهه أسواق دمشق ومعالمها الأثرية، حيال التدمير الممنهج من قبل إيران، لتغيير المعالم التاريخية والثقافية وحتى الدينية لـ دمشق القديمة.
وبالعودة قليلاً إلى الوراء، يُلاحظ وبشكل جليّ، أنه ومنذ عام 2004، بدأت إيران بعملها في دمشق الأثرية، وفق خطة هدفها الاستيلاء على أهم المواقع الأثرية في قلب دمشق، وتنفيذاً لتلك الغايات، فقد تم رصد مبالغ هائلة لإغراء الدمشقيون، لكن من قابل المساعي الإيرانية بالرفض، أُرغم من قبل السلطة وأجهزتها الأمنية، على بيع ممتلكاته، وللتذكير فقط، وقبل عام تقريباً، تم بيع المدرسة “القليجية الحنفية”، وهي مدرسة أثرية تقع في دمشق القديمة، داخل أسوار مدينة دمشق القديمة، خلف قصر العظم مباشرة، وإلى الجنوب الشرقي منه، ولأنها داخل سور دمشق التاريخي، فهي ضمن ما يُعرف بمنطقة دمشق القديمة، وقد أدرجتها “اليونسكو” ضمن مواقع التراث العالمي، أي إنها مصنّفة من ضمن المناطق المحمية من قبلها، لكن وبلعبة شاركت بها السلطة، تم بيعها لتصبح مطعماً وفندقاً سياحياً، تعود ملكيته لضابط سوري وهو رجل إيران الأهم في سوريا.
شاهد/ي: السلطة تحظر محاربة الفساد على “الفيس بوك” ويغلق آخر أبوابه في الساحل
قبل أشهر فقط تم طرد كل شاغلي “التكيّة السليمانية” من الحرفيين السوريين، الذين يشغلونها منذ نصف قرن، بحجة انتهاء عقودهم، واستولت جهات تابعة لـ الأمانة السورية للتنمية، والتي تعود لـ أسماء الأسد، وذلك تمهيداً لمشروع سوف تموله إيران، وقبل أيام التهم حريق كبير قسماً من حي سوق “ساروجة” التاريخي، وفي هذا الحريق خسر السوريون كنزاً وثائقياً لا يُقدر بثمن، كان موجوداً في دار الوثائق التاريخية، حيث تؤكد تلك الوثائق، عائدية أسواق دمشق ومعالمها لعائلات دمشقية.
من المؤسف القول، بأن غالبية المواقع الأثرية في دمشق القديمة، قد استولت عليها إيران، ما يُفسر انتشار ظاهرة المسيرات الدينية والأناشيد الدينية في شوارع وأزقة وأسواق دمشق القديمة. كل ذلك يتم تحت أعين السلطة، ولا أحد في داخل سوريا سواء في المؤسسات الثقافية أو الحكومية، أو في البرلمان السوري يرفع الصوت أمام هذه الجريمة الكبرى بحق الشعب السوري، وتاريخه وثقافته، الأمر الذي أستفز نشطاء سوريين، ووجهوا رسالة عاجلة إلى منظمة اليونسكو لحماية دمشق القديمة، والمعالم الثقافية فيها، لكن يبقى السؤال الأهم، هل ينجح السوريين أو المنظمات التي يلجؤون إليها، بوقف ما تفعله السلطة وإيران في دمشق القديمة، وهنا نعود إلى العم أبو رشدي ذاك الرجل الدمشقي العتيق، والذي قال لي ” فكم صُهرت سبائك الذهب الغالي فما احترقا”.
عمار المعتوق-دمشق