لا يختلف اثنان بأن الحوار بعموم عناوينه له شروط موضوعية وظروفه الواقعية، وعند الحديث عن الحوار السياسي بعمق جُزئياته، نكون أمام معادلة يتم توظيفها في سياق هذا الحوار، إذ يوجد لكل طرف في خيوط الحوار أجندة خاصة وأهداف بعينها يسعى إلى تحقيقها، وهذا يُفهم في أطره الضيقة، لكن تبقى الإشكالية في طاولة الحوار السياسي بأن كل طرف يدّعي امتلاكه الحقيقة وبوابة الحل، وأكثر من ذلك أن كل طرف يسعى إلى تحميل الطرف الآخر سبب الأزمات والمشاكل، الأمر الذي يُعدّ معطّلاً لأي حوار سياسي بعناوين واضحة. نتيجة لذلك، فإن نجاح أي حوار سياسي يحتاج إلى اعتماد العقلانية منهجاً وطريقةً للبدء بالحوار، وتحييد الخلافات جانباً خاصة إذا ما تعلّق الأمر بدولة وشعب عانى من الويلات والأزمات.
وعليه، فإن الملف السوري يحتاج إلى عقلنة الواقع وقراءته وفق أسس سليمة وعلمية واقعية، خاصة أن هذا الملف وجرّاء التعقيدات والتشابكات في زواياه، طال أمد حلّه، الأمر الذي فاقم معاناة السوريين ووضعهم أمام واقع بات بحاجة ماسة لحوار أطرافه وأهدافه وفي عمقه سوريا خالصة.
شاهد/ي: المشهد السياسي في سوريا عام 2024.. أدوارٌ متداخلة ومسارٌ بلا وجهة
في الملف السوري نعتقد جازمين بأن السوريين باتوا مدركين تماما أن سبب الأزمات بمجمل عناوينها، إنما تأتي انطلاقاً من اختلاف الأجندات الإقليمية والدولية وتماهي بعض الأطراف السورية معها، لكن في البداية لابد من التأكيد على عدة عناوين، تبدأ من ضرورة البحث عن حل للأزمة التي تمر بها سوريا، والاعتراف بعمق الأزمة وأسبابها الداخلية والخارجية، وصولاً إلى الأسباب التي ساهمت بتعميق الأزمة وتعطيل حلولها. وضمن ذلك لابد من الاعتراف بأن الحل في سوريا قد لا يتم استشرافه من تفعيل الحوار السوري-السوري، خاصة أن البحث عن حل في ظل التعقيدات والتدخلات الإقليمية والدولية، المتناقضة في رؤيتها للحل، والطامحة لتحقيق مصالح خاصة لها على الارض السورية، قد يُعيق التوصل إلى أي حل ينشده السوريين.
ضمن ما سبق لابد من نسف كل التابوهات. بمعنى أن السوريين لا ينتظرون غودو، ولا يمكن تشبيه السوريين وواقعهم ببطلا مسرحية في انتظار غودو “فلاديمير واستراغون”، اللذان يخوضان حواراً غير منطقي ويرتديان ملابس بالية وعلى وجوههم ترتسم علامات التعب والقهر، ومع ذلك فإن بطلا المسرحية يتشاجران ويذكران بعضهما بأن لا شي يستوجب فعله إلا انتظار “غودو” والذي لن يأتي ابداً. لكن واقعنا السوري وما يؤطره من ازمات سياسية واقتصادية خانقة، تحتاج حُكماً إلى القفز فوق أي اعتبار، وعليه فإنه لا مخرج للسوريين إلا الحوار، ومن جهة ثانية فإن مُنطلقات هذا الحوار يجب أن تبدأ مما يريده السوريين أنفسهم، لا ما تريده روسيا أو إيران أو تركيا والولايات المتحدة وصولاً للسلطة بواقعها وهيكلتها الحالية.
وفي إطار الواقعية السياسية في قراءة الملف السوري وتشعباته، فإن الذهاب بعيداً في وضع تصور سياسي لـ سوريا ومستقبلها، والاختلاف حوله وقولبته ضمن اشتراطات محددة، فإن هذا الأمر أيضاً يعتبر ضرباً من الخيال، خاصة أن تغيير المفاهيم وإعادة ترتيبها في الواقع السوري، تحتاج إلى معادلة سياسية واقتصادية وحتى أمنية، تكون بوابة لأي حوار.
إذاً ما الحل؟
حقيقة الأمر إن المتابع لحوارات السوريين منذ بداية الأزمة وحتى اليوم، يعي تماماً بأن السوريين وعلى اختلاف آرائهم، فإنهم يبقون ضمن دائرة مغلقة، لكن المشهد السوري والواقع الراهن والوطن المنكوب وغموض مآلات هذا الملف، يُفترض ربطاً بكل ذلك أن يستعر الحوار بين السوريين، ويفرض الواقع السابق على السوريين البحث عن مخارج وحلول الكارثة التي تعصف بهم.
المسارات السياسية من “أستانا” إلى “سوتشي” وصولاً إلى جنيف، فإنها تمثل إشكالية في قراءة الملف السوري، وحتى السوريين المتحاورين ضمن هذه المسارات فإنهم لا يتفقون على شيء، وحتى حين الاتفاق ظاهرياً على مسألة محددة، سرعان ما يطفو الخلاف مجدداً عند الغوص في تفاصيلها، لكن رغم ذلك ثمة قواسم مشتركة يمكن البناء عليها واعتمادها في قادمات الأيام، فـ السوريين كل السوريين مهددون في وطنهم ومصيرهم حتى الآن يشوبه الغموض، وتشاركوا القهر والأزمات والكوارث. كل ما سبق مدعاة لتشكيل أرضية يمكن أن تكون منطلقاً لحوار يُثمر اتفاقاً يجمع السوريين، لا سيما أن الجهة المسؤولة عن مأساتهم معروفة للجميع.
نتيجة لذلك، فإنه يمكن القول بأن الحوار السوري-السوري، يجب أن تحكمه سمة الحوار المنطقي والواقعي، وبالتالي فإنه من الضروري استبعاد الاختلافات والتشبث بالمشتركات، ولا ننكر بأن اليأس قد وجد طريقه إلى نفوس السوريين، لكن رغم ذلك، فإن الحوار بوصفه مخرجاً ونهاية للأزمة السورية، يُعيد الألق لنفوس السوريين، والأمر لا يقتصر على سوري الداخل، بل السوريين في الخارج الهاربين من ألم الواقع السوري، والمنتشرين في المخيمات ودول اللجوء، وهذا أيضاً مدعاة لكل السوريين لجمع شتات أحلامهم ونسيان سنوات التغييب وعقود القمع.
لا بد من توضيح العقبات التي تُعيق السوريين من تقرير مصيرهم بأيديهم وأراءهم وتوجهاتهم، رغم ادعاء كافة الأطراف الفاعلة والمؤثرة الملف السوري، بأنهم يعملون لصالح السوريين ويعملون على مساعدتهم لتقرير مصيرهم، والإشكالية الكبرى في هذا الإطار أن كل طرف من الأطراف سواء الإقليمية أو الدولية، تعتبر حلفاؤها في داخل سوريا أو خارجها، بأنهم هم الشعب السوري فقط، أما السوريين الأخرين فهم غرباء ولا يُعتد برأيهم. ولنجاح الحوار السوري يجب بداية إقناع تلك القوى بأن السوريين ورغم انقساماتهم المتعددة والمتشابكة، إلا أنهم أولاً وأخيراً هم سوريين، ولا يحق لتلك القوى تعطيل الحوار السوري أو إعاقته تحت بند المصالح ومناطق النفوذ.
بالتأكيد ثمة تحديات تُعيق الحوار السوري، أولى هذه التحديات هي التحديات الداخلية والتي تُعتبر أهم أسباب الأزمة، وتالياً فإن التحديات الخارجية تتمثل في التدخلات والتي تراها بعض الأطراف كضامن لها، وهذا أساساً ما يُعيق الحوار السوري- السوري، وهنا يحضر سؤال جوهري، لجهة البحث عن الممكنات الواجب استحضارها لتذليل التحديات الداخلية والخارجية، والتوجه إلى طاولة الحوار والبحث عن حلول تخرج السوريين من الازمة الى بر الأمان.
كل خلاف يمكن حله
في معظم المناطق السورية ثمة سوريين أثبتوا وطنيتهم ورغبتهم في تجاوز الاختلافات تمهيداً للحوار السوري-السوري، ونبذ الخلافات والعمل في سياق محدد تكون نهايته حلاً سورياً خالصاً، وعليه فإن كل خلاف يمكن حله ولا يوجد استحالة بالحل، فالحوار الصريح والشفاف يُبنى على المساواة في الحقوق والواجبات لكل السوريين، وبذلك يصل المتحاورون إلى نتائج إيجابية تكون سبباً في إزاحة الخلاف، والسوريين جميعاً يدركون أن عدم الوصول إلى حلول قد تنعكس سلباً على الجميع دون استثناء، ولنا في مناطق الإدارة الذاتية خير دليل على قدرة السوريين في تعزيز ثقافة الحوار، وتقبل الآخر واعتماد المنطق منهجاً لأي حوار سياسي، وقد أفرز المؤتمر الرابع لـ مجلس سوريا الديمقراطية بياناً واضح البنود، أساسها العمل على إنقاذ سوريا، وفي عمقها خارطة طريق للوصول إلى حل سياسي، وبين هذا وذاك، فإن نموذج الإدارة الذاتية يُشكل مفتاحاً للحلول، وبوابة لحوار سوري-سوري جامع، ولابد من الاعتماد على القامات الوطنية الموجودة في سوريا من عرب وكرد وسريان واشوريين وغير ذلك من القوميات الموجودة، فهذه المكونات وخلال سنيّ الأزمة، خبرت جيداً انزياحات الأزمة وكيفية معالجتها بالطرق السياسية السلمية والتي تبدأ بتشكيل نواة حوار في كل قطاع تناقش فيه الضرورات والتحديات، وتهيئة الأجواء لمؤتمر حوار وطني شامل، تحضره كافة أطراف الانقسام الوطني السوري، من سلطة ومعارضة ومجتمع مدني، وتُمثل فيه كافة التعبيرات السياسية والاجتماعية.
شاهد/ي: “أستانا” ضمن أهواء السلطة وفي عمق مصالح حلفائها
نجاح الحوار السوري
في الحوار السوري يجب ألا يستحضر السوريون ماضيهم القريب وحاضرهم المُعاش كبداية للحوار وصياغة مستقبل جديد. هذا الاستحضار تحكمه سمة الاتفاق والحوار البناء، وهنا لابد من إطلاق حوار سوري بصيغة أكثر جدوى، يكون حواراً مسؤولاً يقطع الطرق على كافة التدخلات الخارجية، ويكون حواراً يرتب أولوياتنا كـ سوريين، لنستعيد قدرتنا على الفعل والتأثير في معادلة رسم مصيرنا ومصير وطننا.
كل ما سبق هو برسم كل السوريين سياسيين ومثقفين ومفكرين وعسكريين واقتصاديين وإعلاميين وكُتاب، وكل الذين يريدون أن تكون سوريا وطناً حراَ لكل السوريين.
عمار المعتوق-دمشق