محطات كثيرة وسمت الأزمة السورية بتوصيفات يبدو أنها ستظل لصيقة بالملف السوري لـ فترات طويلة. هي توصيفات تدلل وبشكل مباشر، على أن الأزمة السورية وخلال أربعة عشر عاماً، لم تكن محط اهتمام القوى الإقليمية والدولية، بقدر ما كانت الساحة السورية مسرحاً لمصالح تلك القوى، وبوابة يتم من خلالها تقاسم مناطق النفوذ واعتماد نظام المقايضة السياسية في ملفات أخرى، وربطاً بذلك فإن مقولات أن الملف السوري بات في الثلاجة الدولية، وبأن الأزمة السورية تتذيل ملفات الاهتمام الاقليمي والدولي، هي مقولات واقعية وحقيقية، وما يترجم ذلك واقعاً بأن الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب غزة والمصالح المرتبطة بها، كان لهما الأثر البالغ في التعاطي مع الملف السوري بطريقة سلبية بعيدة عن سلّم الأولويات، وبذلك فإن السوريين ومعاناتهم لم يكونوا ضمن هامش الاهتمام، ويكفي أن نقول بأن السلطة وما تحاول تكريسه من سياسات الاقصاء ورفض الأخر وتخوينه، ساهمت عميقاً في تعميق الأزمة السورية ومعاناة السوريين، عطفاً على طي الملف السوري ووضعه في دائرة اللا فاعلية.
إذاً، الملف السوري يتذيل ملفات الاهتمام. هذا الأمر بات واقعاً، حتى أن السوريين والقوى المعارضة، دائما ما يرددون هذه المقولة، ويتداولونها خلال أحاديثهم عن الواقع السوري، وهذا ما يؤكد في جانب أخر، بأن التعامل الدولي مع الأزمة السورية بات أو يكاد معدوماً، في مقابل التعامل مع أي أحداث إقليمية أو دولية، هي بنظر النظام الدولي أكثر أهمية وإلحاحاً من الملف السوري، ولعل الحرب على الإرهاب والتحولات السياسية العميقة خلال السنوات الماضية والتي شهدها الشرق الأوسط، أماطت اللثام عن حقيقة غاية في الأهمية. هي حقيقة بدأت في الجغرافية السورية، وتشظت لتصل إلى دول الإقليم، وبذلك فإن من نافلة القول التأكيد بأن حل الأزمة السورية، أو الشروع جدّياً في التأسيس لحل سياسي على مقاس القرار الأممي 2254، هي بداية حلحلة الأزمات الإقليمية والدولية، ونتيجة لذلك فإن إطالة أمد الأزمة في سوريا يُنظر إليه ضمن معطيات ثلاث:
الأولى، إن استمرار الأزمة السورية وإبقاء السلطة الحاكمة في دمشق بذات النهج والسياسات، فإن هذا الأمر يعمق أزمات السوريين، ويعطي في المقابل حلفاء السلطة مساحةً أكبر وأعمق، لإبقاء الملف السوري في الثلاجة حيث لا حلول.
الثاني، من المهم القول بأن استمرار الأزمة السورية وعدم التوصّل إلى حل، سيفتح شهية الدول المتربصة بالجغرافية السورية، فـ تركيا وإيران وروسيا، هي دول تتقاسم المصالح، وتقوم بتمييع الحلول، وتفرض الرؤى بما يناسب مصالحها، فضلاً عن أن تركيا تقوم جهاراً نهاراً بتغير ديموغرافي في الجغرافية السورية، وتعمل على توطين الإرهاب وإلباسة ” طقم وكرافة”، في سبيل استثماره بما يخدم مصالحها.
شاهد/ي: “المادة الثامنة” ما زال حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع
الثالث، إن استمرار الأزمة السورية وإبقاء الحل بعيداً عن المشهد، إنما يسارع بتكاثر الإرهاب وتفشيه في الجغرافية السورية، وكما هو معلوم حجم التعاون التركي مع الإرهاب، وتأثير ذلك على الملف السوري ككل، ومن ناحية ثانية، فإن الفصائل التي تتبع لـ تركيا، تمارس الإرهاب وفق منظورها، وهذا ما يزيد من الأزمة، ويتطلب جهداً دولياً لتفعيل الحلول والنظر بجدّية إلى معاناة السوريين، والأهم إجبار السلطة والضغط عليها إقليمياً ودولياً، بغية القيام بتسليم السلطة لإنهاء الأزمة، والشروع بتأسيس مستقبل سوريا بما يناسب السوريين جميعاً.
سوريا خارج الاهتمام الدولي سياسياً
من الجليّ أن التعامل الدولي مع الأزمة السورية بجانبها السياسي يكاد يكون معدوماً، ومن الجليّ أيضاً أن جُل المسارات السياسية الرامية لإيجاد حل سياسي يُنهي الأزمة في سوريا، هي صفرية النتائج والمضمون، إذا ما قورنت بالمسار الأممي 2254، لا سيما أن القرار الأخير يُعد بوابة الحل، إلا القراءات السياسية تختلف في توصيفه بحسب كل طرف وبما يناسب مصالحه، رغم أن هذا القرار واضح المضامين والأهداف، إلا أن تطبيقه واقعاً يحتاج إلى إرادة دولية حقيقية، وقد يقول البعض أن هذا القرار لم يعد صالحاً كـ مسار سياسي لإنهاء الازمة، لكن ذلك يُجافي الحقيقة على اعتبار أن هذا القرار متوافق عليه إقليمياً ودولياً، والإحاطات الأممية وذات الصلة بالملف السوري، دائماً ما تؤكد على أن القرار 2254، هو المسار الوحيد لإنهاء الأزمة السورية، وضمن ذلك فإن أي تأخير في تنفيذ وتطبيق هذا القرار، إنما تحدده مصالح روسيا وإيران وتركيا وضمناً السلطة، لا سيما أن مضمون القرار وجوهره، يتنافى مع مصالح الدول السابقة، وبالتالي يتم اعتماد مسارات سياسية بديلة، لكنها مسارات واهية ولا تُحقق غايات السوريين، بل وتعمل على إطالة عُمر السلطة.
غالبية السوريين متفقين على الملف السوري ينبغي إيلاءه أهمية استثنائية، والحديث عن تعارض الملفات الإقليمية والدولية مع الملف السوري، لا يتسق مع عمق الأزمة السورية، بل على العكس فإن هذه الأزمة ومدتها الزمنية، كانت عاملاً ضاغطاً على كل الملفات والأوراق الإقليمية والدولية، وبهذا المعنى فإن المصالح الإقليمية والدولية تفترض حل الملف السوري أولاً، وتالياً يتم التحول إلى الملفات الأكثر حساسية، وبالتالي فإن الملف السوري وتعقيداته هو في الأساس يشكّل معادلة تضارب المصالح لا سيما بين الولايات المتحدة وروسيا وإيران وحتى تركيا، فالولايات المتحدة لا ترغب في أن تكون الساحة السورية ملعباً روسياً ولا تمدداً إيرانياً ولا أهدافاً تركية، وبين هذا وذاك، فإن الولايات المتحدة واضحة لجهة التعاطي مع الملف السوري في ما يتعلق بالقرار 2254 تنفيذاً وتطبيقاً، وهنا الإشكالية.
التحولات الإقليمية تُجاه الأزمة السورية
الإشكالية السابقة تحددها جملة من التحولات الإقليمية تُجاه الأزمة السورية. هذه التحولات كان لابد منها في سبيل إنهاء معاناة السوريين، ولعل ما سُمي الانفتاح العربي والخليجي تُجاه سوريا، لم يكن إلا محاولة لتطبيق القرار الاممي 2254 ومضامينه المتعددة، إلا أن السلطة وحلفاؤها وجدوا في الانفتاح العربي والخليجي مع سوريا، تهديداً لمصالحهم ومناطق نفوذهم، وعليه تم إيقاف السلطة عند حدود مصالح حلفاؤها، فـ قبول السلطة للمبادرات التي حملتها حالة الانفتاح، تعني تقديم تنازلات من قبل السلطة، ولاحقاً وضع حد للمصالح الروسية والإيرانية والتركية في الجغرافية السورية، وهذا ما يتعارض في الجوهر والمضمون مع مسار أستانا الذي يُهندس روسياً وإيرانياً وتركياً، على مبدئ تقاسم المصالح، وتحييد رغبات السوريين.
ربطاً بما سبق، توجد عوامل إقليمية أثرت وتؤثر في الملف السوري، بمعنى أن الدول الإقليمية المحيطة بسوريا والتي يتم تصنيفها كـ فواعل في الملف السوري، هي الأخرى تعيش تحولات نوعية في سياساتها الداخلية والخارجية؛ هذا الأمر كان له الاثر السلبي لجهة التعاطي مع الملف السوري.
وبعجالة، يمكننا الإضاءة على تلك التحولات، والتي بدأت من قبل الإمارات العربية المتحدة، لكنها كانت وفق منظور سعودي، فقد أظهرت السعودية “وضمناً الاردن ومصر وحتى الإمارات” تحولاً واستدارة سريعة في تطبيع علاقاتها مع السلطة، ولعل زيارة رأس السلطة إلى الرياض مرتين الأولى ضمن اجتماعات الجامعة العربية والثانية ضمن الاجتماع غير العادي بعد عملية طوفان الأقصى، كما تم تبادل البلدان السفراء، وبكل وضوح فإن تطبيع الرياض مع السلطة هو جزء من تطبيع العلاقات مع طهران، وشمل ذلك أيضا مفاوضات مع الحوثيين في اليمن لوقف العمليات العسكرية. ويمكن تصنيف الاستدارة والتحول غير المألوف في السياسة الخارجية السعودية تجاه تطبيع العلاقات مع خصومها الأكثر عداء لها على أنه نتيجة العمل ضمن رغبة الرياض في تجميد الخلافات وتحقيق الاستقرار الإقليمي، لكن السلطة وكعادتها وجدت في التقارب مع السعودية، فرصة لتعزيز سردية الانتصار، وصوابية القرار السوري، وهذا ما دفع بأبواق السلطة إلى تسويق الانتصار الجديد، مدفوعين من قبل السلطة للتصويب على هذا الأمر، لكن في الواقع فإن كل ذلك لا يعد سوى وهماً يباع هنا وهناك، لتعود السلطة إلى سابق عهدها في التعاطي بفوقية مع كل المبادرات العربية، والتقليل من أهميتها.
تركيا إحدى أكثر الفاعلين في سوريا خلال سنوات الأزمة، وتدخلاتها وسياساتها في خضم الملف السوري، كان لها الاثر العميق في تعقيد المشهد السوري، وفي المقابل فإن سياسات أردوغان في سوريا ودول الإقليم، جعلت من الاقتصاد التركي يترنح على شفا خسائر كارثية، ورغم تحول السياسات التركية منذ العام 2022، واعتمادها مبدأ تصفير المشاكل، إلا أن تركيا لم تعتمد هذا المبدأ إلا كـ وسيلة لذر الرماد في العيون، ومحاولتها استقطاب التأثير والتفاعل الاقليمي والدولي مع سياساتها في سوريا، والقول بأنها تحارب الإرهاب، رغم الدعم التركي الواضح لعناوين إرهابية ترغب في استثمارها، فالهجمات التركية ضد مناطق الإدارة الذاتية في أوقات سابقة، وتلويحها بالمزيد من الهجمات في الجغرافية السورية، ليست إلا تطبيقاً للمبدأ التركي بدعم الإرهاب عبر مهاجمة من يحارب الإرهاب، وهذا الأمر أيضاً زاد من تعقيد الأزمة السورية، خاصة أن تركيا والجغرافية التي تسيطر عليها، تكاد تكون منطقة أمنية بمواصفات تركية، الأمر الذي من شأنه منع التوصل إلى حل سياسي يُنهي الأزمة السورية.
في جانب أخر، فإن إيران أيضاً تستثمر وجودها في سوريا وعبثها في الملف السوري، لجهة التوصل إلى توافقات مع غالبية القوى الفاعلة والمؤثرة في الملف السوري، فـ إيران وصلت إلى مراحل متقدمة من المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية بخصوص رفع العقوبات المفروضة عليها مقابل إيقاف تخصيب اليورانيوم، وإدخال لجنة مراقبة دولية لمنشآتها النووية.
شاهد/ي: في جمعة المحبة … السويداء انتفاضة لا تنتهي
وقد أسفرت المحادثات الأخيرة بين الطرفين عن إفراج الولايات المتحدة الأميركية عن 6 مليارات دولار لإيران، ومن المتوقع أن تحقق طهران انفراجة أكبر على صعيد تخفيف العقوبات بعد السلوك الذي أظهرته تجاه الحرب الإسرائيلية في غزة، وعليه فإن إيران من مصلحتها المحافظة على الوضع الراهن في سوريا لسنوات، وبأقل تقدير حماية مراكز نفوذها من أي خطر خارجي، ومن دون التوسع على الأرض، بما يسمح لها بتحقيق تقدم وانفتاح على المجتمع الدولي لاسيما السوق الأوروبية التي تراها شريكاً تجارياً مهماً.
سورية ومستقبلها في ضوء ما سبق
على الصعيد العربي والخليجي، فإن المسار العربي والخليجي إن أمكن تسميته ذلك تجاه سوريا قد توقف بفعل ردود السلطة ومواقفها، كما أن السعودية لم تقدم للسلطة سوى التمثيل الدبلوماسي لكن بصورة محدودة، ولم تمنحها مساعدات مالية تسهم في التعافي المبكر، لذلك فإن السعودية قد تكون بأي لحظة أمام استدارة في سياستها تجاه السلطة، وقد تتراجع عن التزامها الدبلوماسية مع السلطة إذا طرأ حدث معين، فعلى سبيل المثال عودة ترامب إلى البيت الأبيض قد تعيد الحصار على إيران، والتي بدورها قد ترد من خلال ضرب منشآت نفطية في السعودية، وهذا كفيل بعودة توتر العلاقات مع المحور الإيراني. ومن المهم التأكيد أن السلطة لا تزال تستخدم ورقة الكبتاغون ضد جيرانها الاقليمين، وهو تحد له مخاطر جمة للعلاقات السورية العربية الخليجية.
الأمر الذي يجب التنويه إليه، بأن إيران وسياساتها في سوريا، مرتبطة الى حد كبير بحالة الصدام مع الولايات المتحدة، فكلما ارتفع الضغط عليها أمريكياً حركت الملف السوري عبر ضرب مراكز وجود القوات الأميركية في شرق سوريا ضمن قواعد الاشتباك المحددة بين الطرفين، وهنا نعود لِما ذكرناه، حيال إمكانية عودة ترامب للبيت الأبيض ، والتي ستكون علامة فارقة كبيرة تُجاه سياسات إيران في سوريا.
استنتاجات
التحولات الإقليمية للدول المحيطة بـ سوريا، فضلاً عن المناخ الاقليمي والدولي المتوتر جراء الحرب في أوكرانيا وغزة، لن يُحقق الاستقرار في سوريا، وربطاً بذلك فإن هذا الأمر لن يُحقق أيضاً منافع اقتصادية مرتقبة تُخفف من معاناة السوريين الإقتصادية، حتى أن روسيا وايران وتركيا متفقون ضمنياً على المحافظة على الملف السوري بوضعه القائم حالياً، ومن المحتمل بقاء الملف السوري في حالة جمود لفترة زمنية لن تكون قصيرة، ومن المرجح أن تبقى خريطة النفوذ الحالية هي الواقع الذي سيتعايش معه السوريون لسنوات.
كل ذلك سبب حالة من اللا يقين تجاه الملف السوري، والأهم في كل ذلك، أن السلطة ارتضت أن تكون تابعاً للمصالح الروسية والإيرانية وضمناً التركية، وعلى إثر ذلك، سُحبت منها أوراق التأثير والفاعلية، وبدل أن تكون الفاعل والمؤثر في القرار السوري ومآلات الحل السياسي، وضعت نفسها في إطار التبعية وإرتهان القرار بما يناسب روسيا وايران وتركيا، وبذلك فإن معاناة السوريين في تسارع مستمر، ونتيجة لذلك، فإنه من الآولى تفعيل أدوات التأثير والتعامل مع السلطة حيال تطبيق القرار الاممي 2254. دون ذلك، فإن الملف السوري سيبقى في إطار التجاذبات الإقليمية والدولية، وستبقى السلطة في عرش جنونها، وسيبقى السوريون في معاناة وأزمات طال أمدها.
عمار المعتوق-دمشق