كان الاعتقال السياسي التعسفي ومازال أحد ابرز سمات المجتمع السوري الذي عاني ويعاني منها إلى يومنا هذا، حيث شملت الاعتقالات السياسيّة كل ما يمت للشأن العام بصلة من التنظيم السياسي وإبداء الرأي وحرية الصحافة، بالإضافة لمحاولات الأفراد إلقاء الضوء على ممارسات الفساد والفاسدين، حيث تولت الأجهزة الأمنيّة الأداة الأكثر عمقاً وتعبيراً عن جوهر السلطة في دمشق مهام اختطاف السياسيين والمثقفين ومحاربي الفساد، في جميع المراحل أيّاً كانت الظروف، ومع انطلاق الاحتجاجات الشعبية ربيع عام 2011، واتساع رقعة المعارضين والمناهضين لفساد السلطة وممارساتها القمعيّة، لم تدّخر السلطة في دمشق أية وسائل لقمع جميع وسائل الاحتجاج السّلمي بطرق غير قانونيّة وبطرق صوريّة وبأحكام مسبقة لكل من يعارض سياسات السلطة أو ينتقد ممارساتها بتهم جاهزة كـ وهن عزيمة الأمة والإرهاب والتضليل ونشر الشائعات المخلّة بالسلم الأهلي، حيث اكتظّت سجون السلطة بالمتظاهرين السلميين والمعارضين خلال أشهر من انطلاق الاحتجاجات، وفي غياب أرقام دقيقة لحجم الاعتقالات التعسفيّة تشير التقديرات لقرابة المئة ألف معتقل على أقل تقدير، قضى الكثير منهم نتيجة التعذيب وظروف الاعتقال غير الإنسانية، ومنها ما تسرّب من سجن صيدنايا، عن طريق أحد العاملين في السجن، وقامت الولايات المتحدة الأميركيّة بفرض عقوبات على السلطة، نتيجة هذه الممارسات عرفت بقانون قيصر، ناهيك عن عمليات القتل والسلب والنهب وشتى أنواع الممارسات الإجراميّة التي قامت بها قوات تابعة للسلطة أو حليفة لها، مع غيابٍ تام للسلطة القضائيّة، بل على العكس كان وجود محكمة الإرهاب وهيئات قضائيّة أخرى وسيلة ترهيب إضافيّة استخدمتها السلطة لقطع أي بادرة أمل عند الأفراد والجماعات السوريّة بوجود سلطة قضائيّة تستطيع استرجاع ولو جزء بسيط من حقوق السوريين المهدورة.
قانون الطوارئ هل توقّف العمل به؟
أُعلن قانون الطوارئ في سوريا بعد تسلّم البعث السلطة عام 1063 بموجب القرار العسكري رقم(٢)، حيث أُعلنت الأحكام العرفية، استمر العمل بقانون الطوارئ حتى 21 نيسان/أبريل من عام 2011، أي بعد 58 عاماً تحت حكم البعث، لكن إلغاء قانون الطوارئ الذي ترافق مع إلغاء محكمة أمن الدولة (المحكمة العرفية) مع تأسيس محكمة الإرهاب التي حلّت مكانها لتأدية الغرض ذاته؛ ملاحقة المعارضين والتنكيل بهم أينما كانوا ومهما كانت أشكال معارضتهم، كما أن الأفرع الأمنية أبقت على ممارساتها الصورية مع السكان من حيث الاختطاف والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، كما أن ممارساتها في ترهيب السكان ومراقبة الحياة العامة والضغط على مفاصل الحياة المدنية بما في ذلك كمّ الأفواه ونشر الشائعات التي ترهب السكان، مازالت قائمة، حيث تتصرف الأفرع الأمنية وأجهزة البعث كهيئات فوق القانون، تعطي أوامرها للقُضاة أنفسهم في محاكم بداية الجزاء ومحكمة الإرهاب بعد تسليمهم معتقليها، حسب ما أكد لنا محامون دافعوا عن معتقلي رأي في الآونة الأخيرة.
شاهد/ي: دمشق عطشى.. صنابير جافة ومشاريع مائية على الورق
فساد القضاء
على باب محكمة طرطوس يقف شاب في الأربعين من العمر، موظف في المحكمة ويحمل ملفات قضايا، عندما تسأله عن ثمن أي قضية يجيب بوضوح وشكل مباشر، ادعيت أنّ هناك من أقام دعوى ضدي وسألته كيف سنحسم القضية، بعد أن سألني عن القاضي وظروف الدعوى طلب خمسة ملايين عند حكم البراءة، وعندما سألته عن التفاصيل أجابني أن لكل قاضي سعر ولكل قضية سعر.
كما التقيت بعدد من المحامين الذين أكدوا لي أن القضايا تسير على هذا النحو، حيث وبحسب المحامي محمد ك.( 53 عاماً) فإن وصول القاضي لمنصبه يكلفه ثروةً باهظة بدءا من دخوله معهد القضاة وانتهاءً بتعيينه.
وفي شهادة أخرى يقول المحامي طارق ح. ( 43 عام ) هناك قضايا يحلّها وزير العدل بنفسه لكن دخول مكتبه سيكلف عشر ليرات ذهبيّة كحد أدنى.
شاهد/ي: شمال سوريا.. صراخ الحرية يقابل بقبضة القمع
السكان وثقتهم بالقانون والقضاء
(إذا عرفت ديته اقتله ) هذا ماقاله لي نشأت د.(72 عام ) عندما سألته عن العدل، حيث ضحك لدرجة أن سؤالي ظهر ساذجاً وعلى شكل نكته، ومن ثم أكد في لقائنا الصباحي في المقهى الشعبي مع من كان حاضراً، أن لكل فعل ثمنه، وأن من يملك المال يفعل ما يريد، وبدأ الجميع بذكر أمثلة وأحداث تؤكد، أن ميزان العدل يميل باتجاه المال والنفوذ.
حيث درجت العادة عند السكان على حل مشاكلهم اليوميّة والحياتيّة على الصعد الأهلية إذ إنّ المحاكم (بهدلة وقلة قيمة ودفع للنقود) دون جدوى كما يعبّر معظم الأهالي.
منذ أفلاطون وليومنا هذا كانت البشريّة وماتزال في مجتمعاتها تسعى وتحلم بدولة الحق والقانون، دولة العدل التي ما إن ازداد مسلوبو الحق والإرادة فيها وانتشر فيها الجور والظلم حتى تنقلب على رأس القائمين عليها، وتحولت لخراب مدمّر، قد لا يسع هذا المقال للحديث عن آثار استلاب القضاء وتحويله من سلطة مستقلة لأداة بيد السلطة تمعن من خلالها في إذلال السكان وكمّ الأفواه، لكننا حاولنا تسليط الضوء على ظاهرة كبيرة ومؤثرة للغاية في حياة السوريين ومستقبلهم، وربما قد تكون “العدالة الانتقالية” هي الشرط الوحيد الموجب واللازم من أجل سوريا حرّة وعادلة.
أليمار لاذقاني- اللاذقية