بات واضحاً بأن حراك السويداء واستمراريته، قد شكّل حرجاً كبيراً للسلطة الحاكمة في دمشق، خاصة أنها بنت سرديتها على فكرة حماية الأقليات في سوريا، وعملت على تصوير أي احتجاج منذ العام 2011، على أنه مواجهة مع المتشددين، وثمة ضرورات لإنهاء أي احتجاج وفق منظور عسكري، إلا أن حراك السويداء فرض واقعاً جديداً على السلطة، منعها من التدخل عسكرياً لإنهاء حراكٍ مستمر منذ ما يقارب التسعة أشهر، بذلك فإن السويداء وما تمثله من خصوصية في النسيج السوري، فإن هذا الأمر سمح لها بوجود علاقات دولية لدى رجال الدين في الطائفة الدرزية بالأردن وفلسطين وسوريا. هذه العلاقات أتاحت لهم تشكيل قنوات ضغط على السلطة لمنعها من انتهاج الحل العسكري الذي اتبعته في غالبية المدن السورية التي انتفضت ضدها.
ومع استمرار حراك السويداء، وما شكّله من تعرية لسياسات السلطة الرافضة لأي تحركات، فإن هذا الأمر يُميط اللثام عن سياسات السلطة، ورفضها لأي مبادرات سياسية، وتحييد أي رأي خارج عن قاموسها السياسي، فقد بدا واضحاً أن السلطة تُجري ترتيبات سياسية وعسكرية وأمنية، لحسم مشهدية الحراك في السويداء. أولى هذه الترتيبات ظهرت من خلال تعيين محافظ جديد في السويداء، إذ عيّن رئيس السلطة ضابطاً سابقاً في المخابرات العامة، محافظاً لمحافظة السويداء الثائرة عليه منذ نحو 9 أشهر. ويُتهم المحافظ الجديد بقمع مظاهرات حلب إبان انطلاقة الثورة السورية في 2011، وقتل وتعذيب معتقلين ممن شاركوا فيها.
في هذا الإطار يؤكد صفوان عبد السلام (44 عاماً)، وهو ناشط سياسي من مدينة السويداء، أن السلطة لا يمكن أن تلجأ لأي خيار أمني في هذه الفترة من عمر الأزمة السورية، وهذا الأمر لا يرتبط بعدم رغبة السلطة استخدام القوة العسكرية ضد حراك السويداء بناء على أنها تتفهم المتظاهرين، بل على العكس فإن السلطة محرجة ومحرجة جداً من استمرارية الحراك، ولو أن الظرف الداخلي أو الإقليمي يسمح لها بالتدخل عسكرياً لفعلت، لكن في هذا التوقيت تدرك السلطة بأن أي تحرك عسكري أو أمني سيكون ثمنه غالياً، وبالتالي لجأت إلى خيار التلويح بالعمل العسكري، ولكنها أيضاً فشلت في هذا، لتقوم بعدها بتعيين محافظ من خلفية أمنية، لعل وعسى يمكّنها ذلك من اختراق الحِراك والتأثير على قياداته.
شاهد/ي: القضاء السوري بين النفوذ والمال.. عدالة منهارة
يُضيف صفوان، خيار المحافظ الأمني الذي عيّنته السلطة لا يعدو عن كونه محاولة من قبل السلطة بأنها لا تزال ممسكة بكافة الخيوط في السويداء، لكن حقيقة الأمر فإن هذا الأمر غير صحيح، فاليوم تشهد السويداء حالة مجتمعية غاية في التنسيق والدقة، ووجود المحافظ هو فقط وجود شكلي للسلطة، لكن دون أي تأثير، وأي محاولة من قبل المحافظ أو حتى السلطة، للتأثير على الحراك، سيتم الرّد عليه شعبياً من قبل المتظاهرين، خاصة أننا في السويداء رفعنا شعار السلمية، ولا يمكن لأي استفزازات من قبل السلطة أن تؤثر على طبيعة الحراك، ونحن مستمرون.
ما الذي تُحضره السلطة لـ قمع حراك السويداء
تعيين المحافظ الجديد للسويداء أكرم علي محمد، يُعد أمراً لافتاً لكونه ضابطاً متقاعداً برتبة “لواء”، وهو من مرتبات جهاز المخابرات العامة وأحد أبرز الضباط فيها، حيث تدرّج في عدد من المناصب المهمة منها رئاسة فرعي أمن الدولة في حلب بين العامين 2009 و2013، وفي طرطوس في العام 2016، حتى وصل لمنصب المدير الأول لمدير جهاز المخابرات العامة المعروف حسام لوقا.
ويتذكر السوريون بأن اللواء أكرم علي محمد محافظ السويداء الجديد، قد أوكلت إليه مسؤولية قمع الاحتجاجات مع انطلاقة التظاهرات المطالبة بإسقاط السلطة في 2011 إبان رئاسته لفرع أمن الدولة في محافظة حلب، وكان حينها برتبة عميد؛ نتيجة لذلك فإن السلطة يبدو أنها تسعى إلى تأطير حراك السويداء عبر سلسلة من الإجراءات الأمنية والعسكرية، كما أن التدرّج في هندسة واقع أمني يؤطر محافظة السويداء، هدفه الأول والأخير التمهيد للبدء ربما بعمل عسكري عنوانه “مسرحية” محاربة الإرهاب، لا سيما أن إعلام السلطة وقبل أيام أدعى أن هناك خلايا لـ تنظيم “داعش” كانت تحضر للقيام بأعمال إرهابية في السويداء، الأمر الذي يؤكد منهجية وعقلية السلطة تُجاه الحراك في السويداء.
أكد رجب البلعوس أحد منظّمي الحراك في السويداء، أن السلطة تحاول تشويه الحراك وشيطنة المتظاهرين ومطالبهم، وهي لطالما لجأت إلى تلك الممارسات في بداية الأزمة السورية، لكن اليوم الوضع مختلف تماماً، ورغم أن السلطة تحاول اختراق الحراك عبر الترويج لوجود الارهاب في محيط السويداء، أو محاولة الإرهابيين القيام بأعمال إرهابية في داخل السويداء، إلا أن هذه السياسات باتت مكشوفة للسوريين، ولا يمكن للسلطة أو لأبواقها الاستثمار في الإرهاب، لأن السوريين عموماً وأهالي السويداء خاصة يدركون غايات السلطة من هذا الترويج، وبالتالي فإن وعي أهالي السويداء قطع الطريق على ما تريده السلطة.
ويقول رجب، ما نريد التأكيد عليه أن الحراك مستمر، ولا يمكن التأثير عليه لا من قِبل السلطة ولا من قبل أبواقها، ولأننا سلميين فإن أي محاولة لزعزعة الحراك من داخل السويداء فإننا نقوم على الفور بمعالجتها بطرق سلمية.
سياسات السلطة وممارساتها الأمنية، ماذا بعد؟
في ذات الإطار فإن السلطة بحسب مراقبين من المحافظة، قد شكلت لجنة من أجل متابعة الوضع في السويداء، يتولى مكتب المتابعة في رئاسة الجمهورية الإشراف على عملها، بحكم حساسية ملف محافظة السويداء. ظاهرياً فإن إرسال السلطة تعزيزات عسكرية إلى محيط السويداء يأتي في إطار تعزيز الأمن ومنع عودة داعش، لكن ضمنياً فإن السلطة ومن خلال تلك التعزيزات فإنها تعمل على نظم خطة أمنية، بغية تقويض الحراك الشعبي بشكل تدريجي، ودون استخدام نمط العمليات العسكرية الموسعة.
في جانب أخر فإن السلطة تعمل من خلال أبواقها الإعلامية، على إشاعة الأخبار عبر استهداف الإرهاب، وأنها تقوم بحماية المدنيين، وفي العمق فإن السلطة وتنفيذاً لتلك الرؤية، فإنها قد تلجأ إلى تشكيل مجموعات أمنية مرتبطة بالاستخبارات، من أجل تنفيذ بعض عمليات الاغتيال لقيادات في الحراك الشعبي، بالإضافة إلى التضييق الاقتصادي على المحافظة التي تعيش ظروفاً صعبة كانت العامل الأبرز في اندلاع الاحتجاجات الأخيرة.
تعقيباً على ما سبق، يُخبرنا وحيد العربي ( 52 عام)، متطوع سابق في فرع الأمن الجنائي في السويداء، وقدّم استقالته بعد بداية الحراك، أن السلطة في بداية الحراك في السويداء، أرسلت تعميماً يقضي بعدم تدخل أي فرع أمني في حراك السويداء أو محاولة استفزاز المتظاهرين، لكن كان هناك تخوف من قبل ضابط أمن المحافظة من محاولة المتظاهرين اقتحام الأفرع الأمنية، لكن وصلتنا تطمينات من قبل مُنظمي الحراك بأنهم لن يقوموا بأي هجوم على أي عنصر أمني أو مركز أمني، وأن التحركات سلمية وفقط.
شاهد/ي: ابتزاز وسرقات.. الفرقة الرابعة تهدد معيشة السوريين في حماه
يتابع وحيد، لكن بعد حوالي الشهرين من بداية الحراك، بدأ مزاج السلطة يتغير، وطُلب منا صراحة البقاء على أتم الجاهزية، وتم منعنا من الخروج من الفرع فُرادى، لكن لم نشعر بأي خطر، ويبدو أن السلطة حينها بدأت تتخذ منحى أخر للتعامل مع أحداث السويداء، لكن الغريب واللافت للإنتباه، أن رئيس فرع الحزب في السويداء، أرسل تعميماً بضرورة التأهب لأن هناك تحركات إرهابية في داخل السويداء وعلى محيطها، ونحن كعناصر أمنيين لم نلحظ أي تحركات إرهابية، وحقيقةً استغربنا طلب رئيس فرع الحزب، لكن حينها أدركنا أن هناك ما يُحاك للسويداء.
ويختم وحيد، الكثير من عناصر فرع الأمن الجنائي في السويداء وغيره من الأفرع الأمينة، غالبيتهم من أهالي السويداء بحكم المنطقة، وغالبية هذه العناصر قدموا استقالاتهم حين طُلب منهم إطلاق النار تُجاه الحراك، أو افتعال إشكال أمني داخل الحراك، أو اعتقال أحد منظّمي الحراك، حتى وصل الأمر لخطف أحدهم وقتله ورميه على أطراف السويداء لإرهاب المتظاهرين. وهذا ما أشهد عليه أنا وغيري من العناصر الأمنيين الذين قدموا استقالاتهم.
أوهام السلطة باستعادة شرعيتها
باستقراء مشهدية الحراك في السويداء، يبدو من الواضح أن السلطة تتجه لتعزيز قبضتها الأمنية على السويداء، وتعول السلطة في هذا الإطار على ادعائها أن هناك تحسناً نسبياً في علاقاتها مع الدول الإقليمية والعربية، وذلك من أجل الحسم التدريجي للاحتجاجات الشعبية في السويداء والتي أحرجتها بشكل ملحوظ منذ انطلاقها، فـ السلطة ورغم تنامي حالة الرفض الشعبي في السويداء وغيرها من المحافظات، إلا أنها لا تزال تعيش أوهام الانتصار، ولا تزال تعتقد بأن قبضتها الأمنية لا تزال ممسكة برقاب السوريين، إلا أن سياساتها وإستئثارها بالقرار السياسي، إنما يأتي في إطار إدراك السلطة، بأنها فاقدة للشرعية، وأن اجراءاتها سواء تعيين محافظين جدد، أو إجراء انتخابات نيابية، أو التلويح باستخدام القوة العسكرية، كفيلة بإعادة شرعيتها، إلا أن الواقع الجديد الذي فرضه حراك السويداء ورفع شعارات تطالب بـ الديمقراطية والتعددية والحرية وتطبيق القرار الاممي 2254، هي رصاصات أصابت السلطة في مقتل غرورها وهيبتها.
عمر الصحناوي-السويداء