بقلم: جاندا محمد
لم يكن يوم 15 آذار/مارس 2011 يوماً اعتيادياً بالنسبة للسوريين، بل كان حدثاً استثنائياً حمل في جعبته آمال وطموحات الشعب السوري التوّاق إلى الحرية والحياة الكريمة.
فبعد عقود من الحكم الشمولي الديكتاتوري وتعرّض الشعب السوري لسياسات الاستبداد والتمييز والقمع، انطلقت الشرارة الأولى للحراك الثوري متأثرة بتلك التي حدثت في دول الجوار. جاءت هذه الشرارة كردّ فعل طبيعي لمجتمع مقموع متعطش للحرية والكرامة، وكانت نتاج حالة طبيعية جراء سياسات التهميش ومصادرة الحياة السياسية. إن تراكم الأزمات وتغييب المجتمع عن المشاركة في الشأن العام أدى بالنتيجة إلى احتقانات كان لا بدّ أن تنفجر في لحظة تاريخية ما.
الثورة التي حملت آلام وآمال السوريين مرت بالعديد من المخاضات والتحولات. فمن مرحلة الألق كثورة للحرية والكرامة إلى ضياع البوصلة وانحرافها عن مسارها، وذلك لأسباب متعددة، بعضها داخلية وأخرى خارجية. ولعل أبرز تلك الأسباب افتقادها لقيادة كفؤة ومنظمة، إضافة إلى لجوء النظام لخيار العنف والمواجهة الأمنية والعسكرية، وتدخل الدول الإقليمية والدولية التي عملت على فرض أجنداتها من خلال تشكيل بعض الأطر وتكتلات للمعارضة السورية حاملة وحامية لمشاريعها عن طريق ضخ المال السياسي وعسكرة الحراك.
بالتزامن مع الحراك الثوري السوري، انطلقت شرارة من شمال وشرق سوريا. ثورة 19 تمّوز/يوليو 2012 التي ساهمت في وضع أسس لبداية مرحلة جديدة في تاريخ سوريا الحديث. وهذه المساهمة والرؤية ما زالت مستمرة حتى اللحظة وتحاول جاهدة أن تلتقي مع ثورة الوطنيين الأحرار في عموم المناطق السورية لتحقيق أهداف ثورتهم حاملة للقيم والأهداف والمبادئ الإنسانية والديمقراطية.
شاهد/ي: مؤتمر ستوكهولم.. جهود لتحقيق التوافق الوطني السوري
وخلال الأزمة السورية، كانت هناك العديد من المبادرات والمؤتمرات والمسارات وعشرات الاجتماعات للتسوية السياسية، بدءاً من خطة كوفي عنان ذات النقاط السّت، وصولاً إلى مسار جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة، و”أستانة” برعاية روسية ومبادرات عربية ومحلية. إضافة إلى المنصات التي تشكلت كهيئة التفاوض التي انبثقت عن مؤتمر الرياض1 في تشرين الأول/ديسمبر 2015، والتي عُرِّفت حينها بأنها ستكون المرجعية السياسية لتوحيد المعارضة السورية، ولكنها لم تكن كذلك. جميع تلك المسارات والمبادرات لم تأتِ حتى اليوم بنتيجة ولم تصل إلى أُفق للحل في سوريا، لأسباب تتعلق بالأجسام المعارضة نفسها وأخرى تتعلق بالدول الداعمة لكل طرف معارض.
مجلس سوريا الديمقراطية قاطرة القوى الوطنية الديمقراطية
يبقى السؤال الأهم: هل تتعظ القوى الوطنية الديمقراطية لما فيه خير السوريين بعد كل ما جرى خلال هذه السنوات من أحداث مريرة ومؤلمة بل كارثية عصفت بالسوريين؟ فهذه القوى تتحمل أيضاً جزءاً من المسؤولية التاريخية عن الحالة التي وصلت إليها سوريا وطناً وشعباً. عاشت هذه القوى الديمقراطية حالة من التشتت والتبعثر ولم توحّد جهودها خلال السنوات السابقة. وكانت هناك حاجة مُلحّة لأن تتوحد هذه القوى الديمقراطية لتكون قادرة على مواجهة الأزمة، ومنع احتكار توجهات سياسية معينة على كيانات يفترض أنها تمثل كلّ السوريين، وعدم ترك الساحة أمام القوى الجهادية والإقليمية.
يُعتبر التحول الديمقراطي من أصعب وأهم العمليات التي تحتاجها المنطقة. لذا، نرى اليوم أنه من الضرورة أن تتّخذ هذه القوى خطوات باتجاه الحوار والتقارب والتوافق. وهي مطالبة بتجاوز الكثير من العقبات والتحديات وضرورة تقبّل الآخر والعمل معاً للوصول إلى التوافقات في الرؤى والأهداف ووضع خارطة طريق لانتشال سوريا من أزمتها. من المهم أن تأخذ المرأة السورية وفئة الشباب دورهم الريادي في الدفع بعملية الحوار الوطني السوري المُجدي والبنّاء.
يمكن أن يشكّل مجلس سوريا الديمقراطية تلك المظلة للقوى الديمقراطية والوطنية. فمسد منذ نشأته كتحالف سياسي وطني اجتماعي ثقافي سوري جامع منفتح على الحوار مع جميع التنظيمات السياسية والكتل والشخصيات الوطنية المؤمنة بالحل السياسي السلمي ويعمل على التغيير والتحول الديمقراطي.
هذا التحالف السياسي، ومنذ تأسيسه في 8-9/12/2015م، تبنى الحوار الوطني الجامع سبيلاً للحل، لدعم قضايا الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والمكونات. وهذا ما أكد عليه في المؤتمر الرابع له الذي انعقد بتاريخ 20 ديسمبر 2023م، في مدينة الرقة المحررة من تنظيم “داعش” الإرهابي تحت شعار “وحدة السوريين أساس الحل السياسي”.
وفي ظل الوضع المعقد الذي تعيشه المعارضة السورية من حالة انقسام وتشرذم، عمل المجلس في ظل ظروف استثنائية في غاية التعقيد. ومن خلال مساعيه الدائمة والمتكررة للقوى والأطراف الوطنية للحوار، تكللت تلك المساعي بنتائج مثمرة والخروج بالعديد من التفاهمات وتقاطعات للمّ شمل السوريين الفرقاء سواء في الداخل أو الخارج.
كما عمل المجلس مع القوى والشخصيات المعارضة السورية لعقد مؤتمر للقوى والشخصيات الديمقراطية لتأخذ القوى الديمقراطية زمام المبادرة وتقوم بدورها في انتهاج سُبل الحل. ومن الممكن أن يكون هذا المؤتمر، الذي لا يزال قيد التحضير له مستمراً بجهود وتكاتف قوى وطنية سورية، خطوة باتجاه مؤتمر سوري عام جامع للسوريين.
أيضاً عمل مجلس سوريا الديمقراطية على طرح مبادرة بالدعوة إلى تشكيل لجان الحوار الوطني المستقلة في كل المناطق السورية، لأن المرحلة صعبة وتنذر بوضع كارثي قد يكون أخطر مما كان قبل عام 2011م إذا لم يتوحّد السوريون حول مشروع ديمقراطي جامع يقود البلاد إلى برّ الأمان.
حيث تشكلت لجان العمل الوطني في عدة مناطق كحلب والرقة والقامشلي، ويتم العمل على تشكيلها في باقي المناطق السورية وذلك للحوار والاتفاق على الثوابت التي من شأنها أن تكون الضامن لوحدة البلاد أرضاً وشعباً. ومن أهم هذه الثوابت التي تم الاتفاق عليها بين السوريين حتى الآن: وحدة الأراضي السورية وسيادتها، ورفض جميع الاحتلالات وخروج القوى الأجنبية، ووحدة الهوية السورية الوطنية الجامعة، وضرورة حيادية الدولة تجاه الأعراق والأديان ونبذ سياسات التمييز القومية والإثنية والطائفية في المجتمع السوري، واعتماد اللامركزية حلّاً لسوريا المستقبل، ورفض التغيير الديموغرافي في البلاد، واعتبار الثروات الوطنية مُلكاً لجميع السوريين، والعمل على توحيد الرؤى السياسية الوطنية باختلاف مساراتها وألوانها، والتأكيد على ثقافة قبول الآخر المختلف فكرياً وسياسياً وثقافياً وصولاً إلى دولة ديمقراطية تعددية لا مركزية.
وفي وسط الظلام الموجود في البلاد، انطلقت أصوات سورية تدعو إلى الحوار وقبول الآخر، وهي وثيقة المناطق الثلاث ووثيقة تجمع العمل الوطني في الساحل التي تؤكد على ضرورة وأهمية وحدة العمل المشترك على كافة الجغرافية السورية وأهمية الحوار وضرورة استقلالية القرار السوري بما يؤدي إلى إنهاء نظام الاستبداد في البلاد وتحقيق الكرامة وصون الحقوق وتأكيد المواطنة المتساوية.
بالإضافة إلى العديد من المبادرات من القوى والشخصيات السورية الوطنية التي تنادي بضرورة العمل معاً، والحراك الشعبي السلمي في بعض المناطق السورية المطالبة بالحرية والديمقراطية، يكون التعويل فيه على إرادة السوريين الذين يمتلكون من القدرات والكفاءات ما يؤهلهم لإيجاد حل سياسي ينهي الأزمات في البلاد.
لتكون هذه المبادرات والحراك الشعبي بارقة أمل تضاف إلى الجهود الأخرى المبذولة من قبل مجلس سوريا الديمقراطية، ولتكون نقطة جامعة لعمل أبناء الوطن السوري معاً لأجل إخراج بلدهم من المأساة المعاشة، وضرورة عدم التعويل على أي طرف خارجي إيماناً منها أن محرك توجهاتها هو مصالحها الخاصة وليست مصالح السوريين، وهي أساساً منشغلة بما يحدث في العالم من حروب وأزمات عديدة أثقلت بدورها كاهل السوريين في إهمال ملفهم سياسياً بالدرجة الأولى ومن ثم زجهم في صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
سلطات دمشق ولجنة الحوار الوطني: السؤال الذي يطرح نفسه هل خطوة النظام هذه نتيجة اتعاظ من تجاربه السابقة، أم استجابة لمطالب المجتمع الدولي والإقليمي؟
شاهد/ي: تفكك الرهانات القطرية على المشروعين التركي والإيراني في المنطقة
وفي وضع غير مألوف نرى السلطة في دمشق تعلن عن تشكيل لجنة الحوار الوطني لإجراء حوارات وطنية، وهي خطوة من نظام لا يقبل الآخر ويعتبر الرأي الآخر خيانة. هذا النظام المحتكر لكل شيء وبمركزية شديدة مقيتة هو أحد أسباب مآلات الوضع الكارثي في سوريا. فقد عمل هذا النظام أيضاً في 1 حزيران/يونيو 2011م على إصدار قرار جمهوري يقضي بتشكيل هيئة الحوار الوطني، لتبدأ بعدها في دمشق أعمال اللقاء التشاوري للحوار الوطني في 10 تموز/يوليو 2011. إلا أن الحوار لم ينجح وبعض من قوى المعارضة الرئيسية لم يتم دعوتها والبعض الآخر لم يحضر احتجاجاً على الظروف غير المناسبة، بأن الحوار لا يمكن أن يبدأ قبل وقف القمع الأمني والسماح بالتظاهر السّلمي وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإيقاف الدعاية الإعلامية ضد المحتجين والسماح للإعلام الخارجي بتغطية الأحداث السورية.
ويبقى اليوم السؤال الأكثر إلحاحاً: هل النظام جاد في طرحه موضوع الحوار الوطني أم أنه مجرد حديث للاستهلاك الإعلامي؟ وحتى لا يبقى حبراً على ورق دون تنفيذ، عليه الاتعاظ من تجاربه في السنوات السابقة بأنه على الرغم من استخدام العنف ضد المطالب الشعبية إلا أنه لم يستطع أن يخمد نار الثورة. ويُطلب منه اليوم أن ينتهج الحوار بعيداً عن الحلول العسكرية العقيمة التي أنهكت سوريا دولةً ومجتمعاً.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل أصبحنا على مسافة قريبة من التوافقات السورية وقناعة راسخة بأهمية الحوار؟
من دواعي التفاؤل ما ظهر في الفترة الأخيرة من مبادرات تدعو إلى حوار وطني سوري من قبل المعارضة السورية، تتقاطع مع رؤية ومشروع مجلس سوريا الديمقراطية. منها وثيقة المناطق الثلاث، وأيضاً تشكيل السلطة في دمشق للجنة تدعو إلى حوار وطني. هذه المبادرات تتقاطع في دعوتها في خطوطها العريضة وإن اختلفت في التفاصيل والجزئيات.
مما لا شك فيه أن المأساة السورية بأعوامها الثقيلة أنتجت دروساً بالغة الأهمية يجب أن تتعظ منها جميع الأطراف السورية، وأن تقبل بعضها البعض لأن المشتركات كثيرة والوطن السوري هو الجامع، وأن الأخطار المُحدقة بهذا الوطن جسيمة ومهددة لوحدته وقدراته.
وعليه نرى أن هناك مناخاً عاماً سورياً ضاغطاً على جميع الأطراف يؤكد ضرورة انتهاج مبدأ الحوار الوطني، والذي يعتبر السبيل الوحيد للوصول إلى الحل السياسي. ونعتقد أن هذه اللحظة التاريخية والهامة للسوريين سوف تأتي عاجلاً أم آجلاً، وحتى تكون التكلفة أقل، ينبغي الاتعاظ من دروس التاريخ القريب والعمل بروح المواطن السوري الغيور والحر، مدفوعين بحسّ المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقنا للوصول إلى مجتمع حرّ وديمقراطي وسوريا وطناً للجميع.
جاندا محمد
نائبة الرئاسة المشتركة لمجلس سوريا الديمقراطية