لايخفى على أحد أن تركيا تسعى دائماً بإظهار دورها في مكافحة الإرهاب، وعلى أنها نالت منه الكثير وأنها ضحيةٌ له، وما قامت به من عملياتٍ عسكرية داخل حدود جيرانها سواءً في سوريا أو العراق ليس إلا سعياً منها في تحقيق هذا الادعاء.
لكنّ الوقائع على الأرض تعكس غير ذلك كلّياً، وأثبتت أن المناطق التي احتلتها تركيا في سوريا مثلاً باتت ملاذاً آمناً للتنظيمات الإرهابية؛ كـ “داعش” أو أخواتها من “حرّاس الدين” أو “جند الأقصى” وغيرها، ومركزاً لتمويل نشاطات هذه التنظيمات، ولعل العملية الأخيرة للتحالف الدولي ضد التنظيم المتطرف “داعش” والتي أعلنت من خلالها عن مقتل القيادي الداعشي أبو ليث الجنابي، مسؤول التجهيز لدى التنظيم خير مثال عن ما تمّ ذكره آنفاً، وما يكشف زيف ما تدّعيه تركيا في هذا السياق أيضاً هو مقتل اثنين من أبرز قادة هذا التنظيم في أراضٍ لا تبعد عن حدود تركيا بضع كيلومترات، وفي منطقةٍ ينشط فيها النفوذ التركي، حيث قُتل خليفة “داعش” أبو بكر البغدادي في تشرين الأول/اكتوبر 2019، في بلدة باريشا، التي تبعد بضع كيلومترات فقط عن بلدة الريحانية التركية، كما قُتل خليفته أبو إبراهيم القرشي”في شباط/فبراير 2022، في بلدة أطمة، والتي تبعد تقريباً نفس المسافة عن بلدة الريحانية.
شاهد/ي أيضاً: رشاوى وأتاوات.. التكلفة الخفية للاستيراد في سوريا
ليس عبثاً اختيار عناصر “داعش” وقادته لتلك المناطق للاختباء أو الإقامة أو حتى العبور، فتركيا نجحت في تحويل مناطق احتلالها في الشمال السوري إلى بؤرة لانتشار الفوضى الأمنية والفلتان الناجمان من ممارسات الميليشيات المسلحة التي تأتمر بأوامر الاستخبارات التركية، حيث تمارس هذه الميليشيات أبشع الجرائم من قتلٍ واغتصابٍ وخطفٍ وتهجيرٍ قسري بحق السكان الأصليين في تلك المناطق.
فالمعابر الحدودية مع تركيا أصبحت بوابات لتهريب البشر، السلاح، والمخدرات. هذه الأنشطة غير القانونية تُدار بطرق منظمة، والجيش التركي وأجهزة الاستخبارات التركية متورطة فيها وفي تسهيل عمليات التهريب هذه. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم هذه المعابر لتسهيل حركة قيادات “داعش” والتنظيمات المتطرفة الأخرى، مما يعزز من قدرة هذه الجماعات على التخطيط وتنفيذ عمليات إرهابية داخل سوريا وخارجها.
تركيا من خلال سيطرتها على هذه المنطقة تساهم بشكل ممنهج في تعزيز حالة الفوضى وعدم الاستقرار، مما يجعل الشمال السوري المُحتل منطقة خطرة تهدد الأمن والسلم في المنطقة والعالم بأسره.
انفجارٌ وشيكٌ للوضع الحالي في الشمال السوري، إذا لم يتم التعامل معه بحزم من قِبل المجتمع الدولي. حيث أن استمرار الفوضى والتدهور الأمني يمكن أن يؤدي إلى كارثة إنسانية لا يمكن التنبؤ بعواقبها، ليس فقط على سكان المنطقة بل على الاستقرار الإقليمي والدولي.
توفير أراضٍ و ملاذاتٍ آمنة هي من الأسباب الرئيسة التي تدفع لأن يكون تنظيم “داعش” لايزال يشكّل خطراً وتهديداً جدّيان بحاجةٍ لفهم أكثر ومعالجة شاملة حتى بعد أعوامٍ مضت على دحره وإسقاط “خلافته” المزعومة، وبحسب تقارير عدّة محلية ودولية، مازال عدد مقاتلي “داعش” في سورياً كبيراً، حيث أوضحت بيانات القيادة المركزية الأميركية، أن عدد مقاتلي تنظيم “داعش” في سوريا والعراق يبلغ نحو 2500 شخص، أي ضعف التقديرات الصادرة نهاية كانون الثاني/يناير الماضي.
كما أشار التقرير إلى أن هناك دراسات جديدة تبرز هذه المخاوف، حيث أوضح مركز “مشروع مكافحة التطرف” في تقريرصادر في نيسان/ أبريل الماضي أن “داعش” نفّذ بشكل مؤكد ما لا يقل عن 69 هجوما في وسط سوريا في الشهر ذاته فقط.
وتسببت هذه الهجمات في مقتل ما لا يقل عن 84 عنصراً من قوات الجيش السوري و44 مدنيا، وهو أكثر من ضعف العدد الإجمالي لعمليات “داعش” المؤكدة خلال عام 2024.
أمّا فيما يخص عناصر التنظيم المتطرف المحتجزين في سجون ومعتقلات الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا فيبلغ عددهم حوالي 10000 عنصر، وحوالي 70000 من نساء وأطفال التنظيم في المعسكرات المنتشرة في شمال وشرق سوريا وبذلك تصبح سورياً أكبر تجمع للتنظيم في العالم. هذا التداخل بين مشكلة “داعش” وأزمة سوريا يبرز عمق القضية.
شاهد/ي أيضاً: إدلب تغلي.. صراع الإرادات بين الشارع وهيئة تحرير الشام
ملفّ “داعش” من الملفّات المعقّدة والخطيرة، التي يجب على المجتمع الدولي الوقوف عليه وإيجاد الحلول والتعامل الجَدّي معه، ودائماً كانت الإدارة الذاتية تؤكد أنه يجب على المجتمع الدولي المساندة في التقليل من المسؤولية الملقاة على عاتقها إزاء ملف محتجزي التنظيم وعائلاته في المخيمات، إضافة إلى مشاركة دولية في إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة من تلطخت أيديه بدماء السوريين.
وسبق أن أقدمت الإدارة الذاتية على العديد من الخطوات التي من شأنها التقليل من مخاطر ترك الأطفال مع أمهاتهم من نساء “داعش”، اللواتي لم يذخرن جهداً في تلقين أطفالهن الفكر الداعشي المتطرف والاستمرار بالحرب حتى إعلان ما يسمونه “بالدولة الإسلامية”، وهذا الأمر حذرت منه جهاتٌ دولية مراراً لكن دون أي دعم أو مساندة للإدارة الذاتية في فتح مراكز تأهيل أو استعادة الدول لرعاياها التي قاتلت مع التنظيم.
إن تجاهل الوضع في سوريا عموماً ومناطق الشمال والشرق منها على وجه الخصوص أو التباطؤ في معالجة مشاكلها لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة وزيادة معاناة السكان. يجب أن يكون هناك تعاون دولي جاد وسريع لإنقاذ هذه المنطقة- فيما يخص محاربة داعش وتقليص دور تركيا السلبي هناك- من براثن الإرهاب والفوضى، وضمان مستقبل أكثر أمانًا واستقراراً للسوريين وللعالم بأسره.
وسيم اليوسف- إعلام مسد