تشهد مدينة بنش في ريف إدلب الشرقي توتراً متصاعداً منذ أيام، على خلفية الاحتجاجات المناهضة لـ “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا) وردود فعلها العنيفة والتي تطورت من مظاهرات سلمية إلى مواجهات وحملة اعتقالات واسعة، مما أثار قلق الأهالي والنشطاء في المنطقة.
وبدأت الأزمة يوم الجمعة 5 تموز/يوليو 2024، حين خرجت مظاهرة شعبية مناهضة للهيئة، رُفعت خلالها لافتات تندد بممارساتها وتُعبِّر عن التضامن مع اللاجئين السوريين في تركيا، إضافة إلى رفض التطبيع مع السلطة في دمشق. ولكن منذ ذلك الحين، تصاعدت الأحداث بشكل دراماتيكي، محوِّلةً المدينة إلى ساحة مواجهة بين “الهيئة” والمحتجين.
تصعيد أمني وعسكري
دفعت “هيئة تحرير الشام” بتعزيزات عسكرية ضخمة إلى مدينة بنش، شملت أرتالاً عسكرية وأمنية مدججة بالأسلحة. تمركزت هذه القوات في الأحياء والشوارع الرئيسية وحول المدينة، لتقييد حركة المدنيين.
كما فرضت “الهيئة” طوقاً أمنياً حول المساجد، وخاصة مسجد الحسين، في محاولة لمنع تجمُّع المصلّين وخروجهم في مظاهرات عقِب صلاة الجمعة.
وجاء هذا الانتشار الأمني الكثيف بشكل أساسي لمنع تجمع المدنيين والخروج في مظاهرات مناهضة لـ”الهيئة”، ووفقاً لشهود عيان، باتت المدينة أشبه بثكنة عسكرية، مع انتشار المدرعات والسيارات المصفحة المزوَّدة برشاشات ثقيلة في كل زاوية.
حملة اعتقالات واسعة
على مدار الأيام الماضية، شنَّت “الهيئة” حملة اعتقالات طالت العشرات من المدنيين، حيث تم تسجيل اعتقال أكثر من 30 شخصاً حتى الآن، مع استمرار عمليات المداهمة والملاحقة الأمنية.
من بين المعتقلين المنشد “أبو رعد الحِمصي”، الذي اعتُقل عقب مشاركته في إحدى التظاهرات، كما طالت الاعتقالات شخصيات بارزة مثل الدكتور فاروق كشكش، والفنان التشكيلي رامي عبد الحق.
ووفقاً لمصادر محلية، تتم عمليات الاعتقال بطرق وحشية، حيث تقوم القوات الأمنية بمداهمة المنازل في ساعات الفجر الأولى، دون مراعاة لحُرمة البيوت أو سلامة قاطنيها.
اقرأ/ي: الفلتان الأمني يتصاعد في درعا.. صراعات داخلية تهدد حياة المدنيين
رد فعل الأهالي والنشطاء
وفي إطار ردود الأفعال المناهضة لممارسات “الهيئة”، أصدر مثقفو ونشطاء مدينة بنش بياناً شديد اللهجة أدانوا فيه هذه الممارسات، وطالبوا بوقف الاستباحة الأمنية وسحب العناصر المسلحة من المدينة. كما دعوا إلى تشكيل لجنة قضائية محايدة للتحقيق في حادثة الاعتداء على مخفر الشرطة، التي اتخذتها “الهيئة” ذريعة لاقتحام المدينة.
وفي بيانهم، أكد النشطاء على حق الناس في التظاهر السلمي للمطالبة بحقوقهم والإصلاح، مشددين على ضرورة الكشف عن هوية المتورطين في حادثة المخفر ومحاسبتهم. كما طالبوا بنشر الأدلة التي تُثبت تورّط أبناء المدينة في الحادث، بما في ذلك تسجيلات كاميرات المراقبة.
محاولات للتهدئة
وفي محاولة لاحتواء الأزمة، عقد وجهاءٌ من مختلف الأطياف والعائلات في مدينة بنش اجتماعاً استثنائياً، صدر عنه بيان يطالب الحِراك الشعبي بتشكيل لجنة تفاوض، ويدعو “جهاز الأمن العام” التابع لـ”الهيئة” إلى سحب وحداته من المدينة.
وينص هذا الاتفاق، الذي تم التُوصل إليه بعد مفاوضات شاقة، على عدم التظاهر يوم الجمعة فقط مقابل انسحاب القوى الأمنية التابعة لـ”الهيئة” من المدينة عصر اليوم نفسه.
ورغم اعتبار هذا الاتفاق خطوة إيجابية، إلا أن الكثيرين يشككون في مدى التزام “الهيئة” به على المدى الطويل.
اقرأ/ي أيضاً: خلف ستار الانتخابات.. حقيقة المشهد السياسي في مناطق سيطرة السلطة
تداعيات على الحياة اليومية
وأدى التصعيد الأمني إلى شلل شبه تام في المدينة، مع تقطيع أوصالها بالحواجز والدوريات. وعبَّر السكان عن قلقهم من استمرار هذا الوضع وتأثيره على حياتهم اليومية ومعيشتهم. إذ أصبحت الحركة داخل المدينة صعبة للغاية، مع انتشار الحواجز في كل مكان وتدقيق القوات الأمنية في هويات المارة.
كما تأثرت الأنشطة التجارية بشكل كبير أيضاً، مع إغلاق العديد من المحال والأسواق أبوابها خوفاً من الاشتباكات أو الاعتقالات العشوائية، إذ يعيش السكان حالة من القلق والترقب، غير قادرين على ممارسة حياتهم الطبيعية.
الوضع في بنش مفتوح على كل الاحتمالات
وفي ظل هذه الظروف، يبقى الوضع في بنش متوتراً ومفتوحاً على كافة الاحتمالات، فبينما تُصِرُّ “الهيئة” على إجراءاتها الأمنية، يواصل الأهالي والنشطاء مطالبهم بالإصلاح ووقف الانتهاكات، ولكن لا يُعرف بعد فيما كانت جهود الوساطة ستنجح في نزع فتيل الأزمة، أم أن المواجهة ستتصاعد في الأيام القادمة؟
وفي السياق، يرى بعض المراقبين أن “الجولاني” قد يسعى لدفع المحتجين نحو صدام مسلح مع الجناح العسكري لـ”الهيئة”، مما قد يوفر له ذريعة لقمع الحِراك بشكل نهائي. وفي المقابل، يأمل النشطاء في أن يؤدي الضغط الشعبي والدولي إلى إجبار “الهيئة” على تقديم تنازلات حقيقية وإجراء إصلاحات جذرية. ووسط هذه التوقعات المتضاربة، يبقى مستقبل بنش، ومعها مناطق إدلب، رهينة لتطورات الأيام القادمة.
بلال الأحمد – إدلب