ما إن انطلقت شرارة الاحتجاجات الأولى في سوريا ضد السلطة حتى بدأ النظام التركيّ بالعمل الحثيث على التدخل بجميع الأشكال الممكنة للاستثمار في الواقع السوري، حيث بدأت بالدعم المادي واللوجستي للجماعات الإسلاميّة المتطرفة ولم تنتهي بالتحريض على العنف وسرقة ثروات الشعب السوري، فمن تشكيل “المجلس الوطني” ذو الأغلبية الإخوانيّة إلى احتضان “الإئتلاف” و”الحكومة المؤقتة”، لم يتوانَ الأتراك عن احتلال مناطق في سوريا وإدخال قوات تركيّة وتثبيت مناطق لهم في الداخل السوري، كما أنهم دعموا بعض الجماعات الإسلاميّة، وشكّلوا مجموعات أخرى نكّلت بالسوريين في الداخل، فجميعنا نتذكر عملية ما تسمى “غصن الزيتون” وما رافقها من تدمير وتهجير للسوريين وترويعهم في منطقة عفرين السوريّة، كما دأب الأتراك على القيام بعمليات عسكريّة في الشمال الشرقي لسوريّة مستهدفين البنى التحتيّة والسكان، ومحاولينَ تدمير البيئة الديمقراطيّة التي تنشئها الإدارة الذاتيّة بالتعاون مع جميع القوى والفعاليات في المنطقة، مثبتين بذلك أن المصلحة التركيّة العليا تكمن في الفوضى والدمار لكل شبر من الأراضي السوريّة.
اقرأ/ي أيضاً: صناديق فارغة وأصوات مكتومة.. واقع الانتخابات “البرلمانية” في سوريا
الدعم التركي: حصريّاً للمتطرفين الإسلاميين
تحت شعارات برّاقة وفي ظروف كان الشعب السوري يتعرضّ فيها لممارسات قمعيّة من السلطة في مختلف الأراضي السوريّة، بدأ الأتراك بطرح شعارات وتصريحات تأخذ سيمات وأشكال الدفاع عن حقوق الإنسان ومناصرة المظلومين، وعلى أرض الواقع كانت أجهزة الاستخبارات التركيّة تنسّق لتغييب أي حركة وطنيّة سوريّة، وتعمل بكل جهد على تعويم التنظيمات الإسلاميّة المتطرفة، وتدعمها بالمال والسلاح، ودججت تلك المنظومات الجهاديّة بعقائد معاديّة لجميع فئات الشعب السوري، لرغبتها بزج كيان غريب مرتبط بالاحتلال التركي ارتباطاً وثيقاً لايستطيع الفكاك منه، ذلك لأنه ككيان معادي لبيئاته المحليّة لايملك القدرة على قطع حبل الصرّة مع الأتراك، حيث يستخدمهم الأتراك لترهيب السوريين وتحقيق مآربهم الخاصّة، كما عمل الأتراك على توزيع هذه المليشيات الإسلاميّة على عدّة مناطق وبتسميات مختلفة منها ماهو تابع بشكل شكلي للمعارضة ومنها ماهو تابع بشكل مباشر لقيادات عسكريّة تركيّة ومنها تنظيمات تتبع للأتراك بشكل غير علني “كهيئة تحرير الشام” التي تنسّق مع الميليشيات التركيّة وجيش الإحتلال التركي على إدارة الأمور في إدلب وريفها.
وجاء الدخول التركي العسكري المباشر للأراضي السوريّة وتثبيته لنقاط عسكريّة دائمة، لتمكين سيطرته على هذه المليشيات وتوجيهها بشكل كامل لتحقيق مصالها وصفقاتها مع الروس والسلطة في دمشق.
التخلي التركي عن حلفاء الأمس
على مدى سنوات الثورة كان بعض سكان مناطق الاحتلال التركي، يعتقدون بشكل كبير أن النظام التركي حليف مخلص لتطلعات الشعب السوري، حيث كان المصدقون لتصريحات أردوغان وأركان نظامه على مدار اثني عشر عاماً يعتقدون أن النظام التركي يتبنى قضيتهم، ومن نتائج هذا الاعتقاد على أرض الوقائع تحمّل سكان هذه المناطق المليشيات المدعومة من تركيا والصمت عن تجاوزاتها، واعتبار أن هذا يضر بالأتراك الحلفاء المخلصين، وليس غريباً خروج مظاهرات في بنّش والكثير من مناطق ريف إدلب مطالبة بإنهاء تجاوزات المليشيات من اعتقالات وترهيب للسكان بعد تصريحات النظام التركي برغبته بإنجاز التطبيع مع السلطة في دمشق، حيث بدأت هذه الاحتجاجات بشعارات معادية للأتراك وأردوغان تحديداً، ذلك بسب شعور عام بالإحباط من الموقف التركي، ويقين عام لدى سكّان هؤولاء المناطق ومعظم السوريين بأن النظام التركي يستغل الأوضاع في سوريا بأبشع الصور، ويحاول بشتّى الوسائل القضاء على أي مشروع وطني سوري يكتنز بعوامل إحلال السلام وعودة سوريا وطنا للسوريين، فالرغبة التركيّة الواضحة والجليّة لدى هؤولاء هي رغبة استعماريّة بحتة قائمة على نهب البلاد واستعباد العباد.
شكل الصفقة المحتملة مع السلطة
بعد أن قام النظام التركي بتأسيس كيانات متطرفة ومرتبطة باستخباراته، مالذي يريده النظام التركي من السلطة في دمشق؟
اقرأ/ي أيضاً: السويداء من الجنوب إلى الشمال والمصير واحد
يبدو أن ملف اللاجئين السوريين في تركيا بدأ يضغط بشكل كبير على أردوغان وحزبه، ولقطع الطريق على المعارضة التركيّة في هذا الشأن، بدأ أردوغان بالترويج للتطبيع مع السلطة في دمشق لإعادة السوريين إلى الداخل السوري، لكنّ هذه الصفقة إن لم تكن محض تصريحات إعلاميّة يُراد بها تحقيق مكاسب انتخابيّة فكيف يمكن لها أن تكون، فالسلطة في دمشق تتمسك بإجلاء القوات التركيّة من داخل الأراضي السوريّة، وتصفيّة المليشيات الإسلامية المدعومة من تركيا، النظام التركي متمسك بإشراك الإئتلاف بحكومة السلطة في دمشق وإعادة اللاجئين، لكن مطالب الاثنين تبدو كأحلام بعيدة بالنسبة للطرف الآخر، وهذا التقارب المزعوم لا يمكن أن يتم في ظل الظروف الحاليّة، فوجود كل طرف مبرر لوجود الآخر (ممارسات السلطة واستمرارها يبرر وجود التنظيمات الإسلامية المتشددة، ووجود التنظيمات الإسلاميّة المتشددة يبرر استمرار السلطة في دمشق) لذا فإن غياب أي طرف أو تغيره سيؤدي لغياب مبررات بقاء الطرف الآخر، وإنّ عودة اللاجئين السوريين سواء في تركيا أو دول الجوار لن يتم إلّا بحلٍّ شامل سيؤدي بالتأكيد لتغيير السلطة في دمشق، وهذه القاعدة لاتغيب عن النظام التركي، لكنه يستطيع وبالطبع دائماً الدعوة للحوار والتفاوض واللقاء والتطبيع دون أن يتنازل أو يغير شيئاً في الواقع، ويستثمر ذلك في دعايته الانتخابية والبربوغاندا الخاصة بأردوغان.
إن المظاهرات التي تعمّ مناطق النفوذ التركي لهي دليلٌ واضح على أن السوريين أينما كانوا لايمكن أن يرضوا بأقل من مشروع وطني حامل لكل السوريين، وأن كل ماهو قائم الآن في هذه المناطق هو مؤقت وعابر ولايمت لروح السوريين بصله، وليس لنا نحن كسوريين أينما كنّا إلا حوارنا الوطني وأهدافنا السوريّة الخالصة لتصل بنا لبرّ الأمان.
أليمار لاذقاني- اللاذقية