بقلم: شيرا أوسي
تُعدّ قضية تمكين المرأة من القضايا الجوهرية التي تشغل الرأي العام منذ عقود، وقد اكتسبت أهمية متزايدة مع التطورات السياسية والمجتمعية الحديثة. يُنظر إلى تمكين المرأة كمؤشر حيوي لتقدم المجتمع وتطوّره على الأصعدة المعرفية والسياسية والثقافية والقانونية، نظرًا لدورها الأساسي كعماد المجتمع والركيزة الأساسية في بنائه السليم.
وقد بُذلت جهود حثيثة لتعزيز قدرات المرأة في مختلف المجالات، بهدف زيادة ثقتها بنفسها وتوسيع خياراتها المهنية، وبالتالي تمكينها وإيصالها إلى مراكز صُنع القرار والمناصب القيادية المؤثرة في رسم السياسات، مع التركيز بشكل خاص على التمكين السياسي.
إن التمكين السياسي للمرأة يعني ضمان مشاركتها وتمثيلها المتكافئ في كافة المجالات المجتمعية والسياسية، بما في ذلك الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، ومنحها الصلاحيات اللازمة لممارسة مهامها بفعالية. ويُعتبر تمكين المرأة نتاجًا إيجابيًا للبرامج والسياسات الهادفة إلى بناء قدراتها وتهيئة البيئة الاجتماعية والفكرية والثقافية والقانونية اللازمة لضمان ممارستها لدورها بشكل عادل وفعّال على جميع المستويات.
وعلى الرغم من أهمية تمكين المرأة، فإن وضع المرأة السورية يقدم مثالاً واضحًا على التحديات التي لا تزال قائمة في هذا المجال. فعلى مدى عقود، وبالرغم من المكانة العلمية والثقافية المرموقة للمرأة السورية وانفتاحها التوعوي في مختلف المجالات، إلا أن دورها ظل متواضعًا في العديد من النواحي.
ومن الملاحظ أن المرأة في سوريا لم تتمكن من تأسيس منظمات نسوية قوية قادرة على تجاوز العقبات التي تواجهها. وقد انعكس هذا الأمر على مشاركتها السياسية، حيث ظلت هذه المشاركة محدودة وخجولة، ولم تتجاوز في كثير من الأحيان التمثيل الشكلي داخل هياكل السلطة وصنع القرار.
ويمكن إرجاع هذا الوضع إلى عدة أسباب، أهمها الترابط الوثيق بين التمكين السياسي والتمكين الاقتصادي والاجتماعي والقانوني. فمن الصعب تحقيق تقدم في المجال السياسي دون إحراز تقدم مماثل في هذه المجالات الأخرى. إضافة إلى ذلك، لا تزال المرأة تواجه تحديات كبيرة تتمثل في العادات والتقاليد والأعراف المجتمعية التي قد تعيق تمكينها، حتى مع امتلاكها للمعرفة والإدراك بأهمية دورها. كما لا بد من الإشارة والتنويه إلى أن القوانين السائدة، وكذلك مواقف المجتمع والأحزاب السياسية ورؤيتها لدور المرأة، لا تزال في كثير من الأحيان قاصرة ومعرقلة لعملية التمكين.
وفي إطار تحليل أعمق لوضع المرأة في سوريا والعالم، نجد أن المقاربات النظرية – سواء تلك المستندة إلى مرتكزات تاريخية ودينية أو المستوحاة من الأيديولوجيات الغربية الحديثة – قد أخفقت في تشخيص دقيق للواقع الاجتماعي والثقافي المحيط بالمرأة. هذا القصور أدى إلى عدم وضوح الرؤية في تحديد خارطة طريق فعّالة لتعزيز مكانة المرأة في المجتمع.
إن جذور هذه المشكلة تكمن في المقاربة الخاطئة التي لا تزال سائدة، حيث عجزت حتى الحركات والمنظمات النسوية عن تخطي العوائق القائمة. فالتحدي الأساسي يتمثل في بناء منظومة خاصة بالمرأة، تتجاوز القوالب النمطية التي فرضها المجتمع الذكوري، بدءًا من المنزل وصولاً إلى أعلى مستويات السلطة.
ولتحقيق هذا الهدف، لا بد من تمكين المرأة من بناء شخصيتها العصرية وإثبات إرادتها. وقد أظهرت المرأة السورية قدرتها على ذلك من خلال مشاركاتها الفعّالة في الحِراك الشعبي نحو التغيير خلال العقد الماضي. لذا، فإن العقبة الرئيسية لا تكمن في قابلية المرأة للتغيير، بل في الرؤية القاصرة حول كيفية إدماجها في الحياة السياسية بمختلف جوانبها.
في ضوء ما تم ذكره، ومن خلال الواقع الملموس للتحديات التي تواجه المرأة وتحد من تمكينها، تؤكد المعطيات والحقائق أن النماذج الغربية التقليدية لم تنجح في تحقيق تغييرات جوهرية تتجاوز المنظومات الذكورية المهيمنة. فقد أظهرت هذه النُّظم الليبرالية وتفرعاتها قصورًا واضحًا في ترسيخ دور المرأة بشكل فعّال ضمن الأطر المجتمعية، وخاصة في المجال السياسي.
وعند النظر إلى واقع المرأة في عالم السياسة، نجد أنها لا تزال في كثير من الأحيان تابعة للدوائر السياسية الذكورية التي ترسم الأدوار في أروقة الدولة. فالمرأة غالبًا ما تجد نفسها مقيدة بإبداء الرأي ضمن مسارات محددة سلفًا من قبل الذهنية الذكورية. هذا الوضع أدى إلى ظهور ما يمكن تسميته بـ “المرأة الذكورية” في العديد من دول العالم، حيث تغيب المشاركة الفعالة للمرأة النابعة من إرادتها وقوتها الفكرية الخاصة في العملية السياسية.
اقرأ/ي أيضاً: الخروج من متاهة الوضع السوري
ومن هنا، يتضح أنه لا يمكن تحقيق تنمية ذاتية مستدامة في المجتمعات من خلال تهميش المرأة أو اقتصار مشاركتها على أدوار فردية محدودة في السلطة. بل يتطلب الأمر عمليات ممنهجة ومنظمة تهدف إلى إيصال المرأة إلى مراكز صنع القرار في أنظمة الحكم والإدارة، سواء في المؤسسات أو المناصب الوزارية أو حتى الرئاسة.
في ظل البحث عن حلول فعّالة لتحقيق التمكين الحقيقي للمرأة، وتجاوزاً للنماذج التقليدية التي أثبتت قصورها، تبرز تجربة المنظومة النسوية الثورية في شمال وشرق سوريا كمثال ملهم وجدير بالدراسة. فقد استطاعت هذه المنظومة، خلال فترة وجيزة، تحقيق إنجازات ملموسة تتخطى الحدود المألوفة للمشاركة النسائية.
تميزت هذه التجربة بدورها الريادي في تحقيق انتصارات على الصعيد العسكري، وإحداث تغييرات جوهرية في القوانين المجتمعية المتعلقة بالمرأة. وقد نجحت في كسر القوالب الصلبة التي كانت تقيد دور المرأة لفترات طويلة، محققة بذلك نقلة نوعية على مختلف الأصعدة وفي شتى المجالات.
ومن أبرز ما يميز هذه التجربة هو تجاوزها لمفهوم التمثيل الشكلي للمرأة في الأجسام والمؤسسات. فقد باتت النساء في هذه المناطق يمارسن العمل السياسي بفعالية، ويشاركن بشكل مباشر وحقيقي في عملية صنع القرارات المتعلقة بالمجتمع في مختلف المجالات.
والنقطة الجوهرية التي تستحق التركيز عليها هي وجود تنظيم متكامل خاص بالمرأة، يتمتع بالقوة العسكرية والسياسية والأيديولوجية. هذا التنظيم وفّر الأرضية الملائمة والمساحات الحرة اللازمة لتفعيل دور المرأة في العملية السياسية بشكل حقيقي وفعّال.
إن هذه التجربة تقدم نموذجًا عمليًا لكيفية تجاوز التحديات التي ذُكرت سابقاً، وتُظهر إمكانية تحقيق تغيير جذري في واقع المرأة عندما تتوفر الظروف المناسبة والإرادة الحقيقية للتغيير. وهي بذلك تفتح آفاقًا جديدة للتفكير في كيفية تمكين المرأة في سياقات مختلفة، وتقدم دروسًا قيمة يمكن الاستفادة منها في تطوير استراتيجيات تمكين المرأة، متجاوزة بذلك القصور الذي شهدته النماذج الغربية التقليدية والمقاربات النظرية السابقة.
وفي ظل الأزمة السورية الراهنة، التي كانت المرأة من أبرز ضحاياها، يبرز تمكين المرأة كشرط أساسي لتحقيق حلٍّ سياسي شامل. ولتحقيق ذلك، لا بد من بناء جسور تواصل بين مختلف الفئات المجتمعية السورية، وإنشاء مسارات حيوية تفرض على جميع الأطراف إشراك المرأة في القطاعات السياسية المختلفة.
إن الخطوة الحاسمة تتمثل في تأسيس تجمعات سياسية نسوية سورية، تقوم على أساس تنظيم المرأة وتقويتها نظريًا وعمليًا. هذه التجمعات ستكون بمثابة منصة لتقديم الدعم والمساندة للمرأة في الواقع العملي، مما يسهم في ترسيخ دورها الفاعل في بناء مستقبل سوريا.
اقرأ/ي أيضاً: المرأة في الطليعة.. مسيرة ثورة 19 تموز في شمال وشرق سوريا
وللوصول إلى مساواة حقيقية في الحياة والتمكين الفعلي للمرأة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، كان لا بد من وجود ورش عمل وجلسات حوارية منظمة بشكل دوري. وهذا ما قامت به مسد مؤخرًا من خلال وضع برامج أكاديمية وتنظيمية وإعداد جلسات حوارية لإثراء الفكر التوعوي لدى المرأة والدفع بتلك الطاقات نحو العمل الأكاديمي المنظم، الذي ينتهي بنتائج إيجابية تساهم بشكل فعال في تمكين المرأة.
إن الواجب الوطني والمسؤولية التاريخية تحتم علينا الإسراع في تمكين المرأة وضمان حصولها على حقوقها كاملة. يجب أن نسعى جاهدين لوضع المرأة في المكانة التي تليق بقيمتها وإمكانياتها وقدراتها، اعترافًا بتضحياتها عبر التاريخ. ومن المهم أن ندرك أن الاستقرار والتقدم الحقيقي لن يتحققا إلا من خلال ضمان مشاركة فاعلة للمرأة في كافة مجالات العمل الوطني.
هذه الرؤية الشاملة لتمكين المرأة لا تمثل فقط ضرورة أخلاقية، بل هي أيضًا شرط أساسي لتحقيق تنمية مستدامة وشاملة. فمن خلال إطلاق الإمكانات الكاملة للمرأة في المجال السياسي وغيره، نفتح الباب أمام مستقبل أكثر إشراقًا وعدلًا للجميع. وعلينا أن نتذكر دائمًا أن تمكين المرأة ليس فقط قضية نسوية، بل هو قضية مجتمعية شاملة تعود بالنفع على الجميع، وتُسهم في بناء مجتمعات أكثر قوة وتماسكًا وازدهارًا.
هذا النهج الشمولي في تمكين المرأة يتجاوز النماذج التقليدية التي أثبتت محدوديتها، ويستفيد من الدروس المستقاة من تجارب ناجحة مثل تلك التي شهدتها المناطق الشمالية والشرقية من سوريا. إنه يؤكد على ضرورة التغيير الجذري في الممارسات والهياكل المجتمعية، مع التركيز على بناء قدرات المرأة وتوفير الفرص الحقيقية لها للمشاركة في صنع القرار على جميع المستويات.
شيرا أوسي
الرئيسة المشتركة لمكتب إعلام مجلس سوريا الديمقراطية