تكاثرت المبادرات والخطط واللقاءات والتصريحات التي جاءت في إطار البحث عن حل للأزمة السورية، لكن كل ذلك لم يُفضِ في أحسن الأحوال إلى التخفيف من الكوارث التي تعصف بالسوريين، أو على الأقل توضيح بارقة أمل لهم برحيل السلطة التي لا تزال تناور وتحاول التملص من كل المبادرات السياسية الرامية فعلاً إلى تحقيق مخرجات القرار الأممي 2254. واليوم، يقف السوريون أمام أربعة عشر عاماً من تعقيدات وتشابكات طالت واقعهم وجغرافيتهم، لتبدو ضمن ذلك الإمكانيات الفعلية للحل المأمول ومتحققاته بعيدة المنال وفق المعطيات الراهنة.
لا تزال السلطة الحاكمة في دمشق تراهن وتعتقد أنه بإمكانها الاستمرار جاثمة على صدور السوريين، مستفيدة من حالة التخبط الإقليمي والدولي حيال الملف السوري، وتقاطع مصالح القوى حيناً وتضاربها حيناً آخر. وفي الإطار ذاته، فإن المعارضة السورية التي ترفع اللواء التركي لا تزال بدورها تراهن على إسقاط السلطة عسكرياً، وتتخذ من الأجندة التركية في الجغرافيا السورية منطلقاً لتوجهاتها. في المقابل، ترفض السلطة أيضاً كل دعوات الحوار التي تنبثق عن رؤية مجلس سوريا الديمقراطية لإيجاد حلّ سياسي يُنهي معاناة وأزمات السوريين. نتيجة لذلك، فقد تحولت الأزمة الوطنية في سوريا إلى حرب سياسية كارثية تخوضها السلطة وحلفاؤها في إيران وروسيا ضد السوريين، في مقابل أجندات تركية واضحة في الجغرافيا السورية تترجمها الفصائل المدعومة تركياً، وكأن كل هؤلاء يعملون في فلك السلطة من أجل إعادة شرعيتها الإقليمية والدولية والقول بأن لا حل خارج منظومتها.
لا أفق للحل
في حقيقة الأمر، يبدو أن السلطة وشركاءها المباشرين وغير المباشرين يفتقدون إلى أدنى مقومات السياسة، وهم بذلك أميّون قولاً وفعلاً. إذ إن أبجديات علم السياسة تفترض أن التوصّل إلى أي حلّ سياسي لأزمة سياسية ما يتوجب على الأطراف المتصارعة أن تحتكم إلى حقل السياسة وأن توليه اهتماماً، أو أن يُفرض عليها حلّ سياسي تتوافق عليه مجموعة من القوى الدولية بوصفها ضامنة لإنجاح خطواته. لكن ذلك لم يحدث في خضم الأزمة السورية، فالسلطة تحاول إطالة أمد الأزمة لإطالة بقائها، وروسيا وإيران مستفيدتان من هذا الواقع، وتركيا بدورها ترى في السلطة وسيلة لشرعنة بقائها في الجغرافيا السورية. وضمن ذلك وفي إطار أهم، فإن السلطة لا تعترف بالسياسة، ولا يُسمح للسوريين بخوض غمارها، بل يتم تجريد المجتمع السوري من أية ممارسة سياسية بعد أن صادرت السلطة فضاءه العام.
اقرأ/ي أيضاً: تركيا.. من حليف مزعوم إلى قوة احتلال
تتعمد السلطة إغلاق الحقل السياسي، ومنع حتى الاستماع للمبادرات الوطنية السورية على اختلاف مصادرها، ومنع أي نقاش أو حوار سياسي بين السوريين، باستثناء “حوارات الطرشان” التي يُديرها “حزب البعث”. كما تمنع اللقاءات السياسية بمفهومها الواقعي والبعيد عن عين السلطة ورقيبها، والتي تتناول شؤون السوريين ومشاكلهم وهمومهم، ويبحثون فيها عن إمكانيات ومعالم طريق الانتقال السلمي نحو مندرجات دولة مدنية ديمقراطية تعددية، تضمن المواطنة وحقوق المواطن، وتنهي احتكار السلطة والاستبداد المقيم منذ عدة عقود. كل ذلك، وللأسف، أفضى إلى انتفاء السياسة ومصادرتها من قبل السلطة، وبهذا فقد اغُتيل صوت العقل، وتم تغليب منطق السلطة ومفهومها ونهجها الإقصائي.
إذاً ما الحل؟
عند البحث عن موجبات تحقيق الحل السياسي في سوريا، سرعان ما يتم الاصطدام بتعنت السلطة. وفي جانب آخر، فإن روسيا وإيران وتركيا، ورغم المسارات السياسية التي تم إنشاؤها، وتم بموجبها تحييد آراء شرائح واسعة من السوريين، فإن ذلك لم يحقق أي مُنتج سياسي تُبنى عليه ركائز إنهاء الأزمة السورية. والأخيرة، وبإجماع غالبية القوى الإقليمية والدولية، لن تنتهي إلا من خلال تسليم السلطة بأنها باتت منزوعة الشرعية. وما الحديث عن مبادرات عربية هنا وهناك، وكذلك تقارب سوري تركي، وضمن ذلك انفراجات اقتصادية ومشاريع استثمارية، وغيرها من التّرهات، إلا مضيعة للوقت، وإطالة في أمد أزمات السوريين وترهل واقعهم أكثر فأكثر.
ثمة ضمن ما سبق أطروحات تعمل على تأخير الحل السياسي في سوريا. هي أطروحات تؤكد مضامينها بأن الحل في سوريا مُجمد حالياً، وقد تتم ترجمة ذلك بأن حرب إسرائيل في غزة لم تنتهِ بعد، كما أن التوترات الكُبرى المصاحبة لتلك الحرب تؤثر في مسار الحل. وقبل ذلك، كان التفسير بأن تأخير الحل هو نتيجة الزلزال الذي ضرب سوريا وأدخلها في بازار إنساني سياسي، وقبل ذلك الحرب الروسية في أوكرانيا، والكثير من الأطروحات التي تُعيق التوصل إلى حل سياسي في سوريا. وما يحكم هذه الأطروحات أنها تصبّ في تفسير واحد، وهو أن العوامل الخارجية هي المؤثر والمحرك الأساسي للملف السوري. لكن في مقابل ذلك، ثمة سوريون كُثر يرفضون هذا المنطق، ويرفضون أيضاً تسليم شراع الحل للقوى الخارجية.
صحيح أن التأثيرات والظروف الخارجية تكاد تكون بمثابة لاعب أساسي في المعادلات المحلية، ولكنها لا تتحول إلى عاملٍ حاسمٍ إلا حين نتخلى نحن السوريين عن دورنا وعن حقنا في تقرير مصيرنا؛ فالحق بتقرير المصير لم يكن في يومٍ من الأيام منحةً أو مكرمةً من أحد، بل دائماً ما كان يُنتزع انتزاعاً. نتيجة لذلك، فإن للسوريين الحق في تقرير مصيرهم، وانتزاع هذا الحق يتطلب حلاً سياسياً سورياً خالصاً، يُعيد توحيد سوريا والسوريين ويُخرج القوات الأجنبية منها. والطريق الوحيد لهذه الغاية هو التطبيق الكامل للقرار 2254.
هل فعلاً لا أفق للحل السياسي في سوريا؟
ضمن ما سبق، فإن القوى السياسية في سوريا وعلى اختلاف تصنيفاتها، مطالبة اليوم بالعمل في مسارين:
الأول – المبادرات السياسية العربية والخليجية تُجاه سوريا، وعلى أهميتها، إلا أنها غير قادرة على تطبيق الغاية الأساسية منها، كما أن تلك المبادرات لا تُعد ضمانة لسوريا من التقسيم، وللسوريين من البقاء في ظلال السلطة المُستبدة. بل على العكس، فغالبية السوريين يرون في تلك المبادرات استمراراً للأزمة وإطالة في أمدها. كما أن السلطة، ومن خلال تلك المبادرات، وجدت متنفّساً سياسياً يُعيد الشرعية المفقودة إليها. ورفض السلطة لمضامين تلك المبادرات يؤكد صحة ما سبق، بأن السلطة تتمسك بالكرسي وترفض الحل وتعمل على توظيف أي مسار سياسي عربي خليجي غربي في خضم سياساتها القمعية، على اعتبار أنها لا تزال الطرف الأقوى، وهي مَن تمسك بخيوط الحل.
اقرأ/ي أيضاً: صناديق فارغة وأصوات مكتومة.. واقع الانتخابات “البرلمانية” في سوريا
الثاني – انطلاقاً من المسار الأول، ينبغي على السوريين جميعاً الاستفادة من التوازنات الدولية والإقليمية الجديدة، ولكن ليس عبر مراقبتها وانتظار نتائجها؛ فالمعركة العالمية ستستمر لسنوات أخرى، وجزءٌ منها هو تعميق الخراب في سوريا بحيث لا تقوم لها قائمة لاحقاً. ولذا فإنّ الاستفادة الفعلية تكون بتفعيل حق تقرير المصير عبر الانتقال إلى حيّز المبادرة والفعل الإيجابي، والبحث عن حلول وأشكال تُوصل سوريا والسوريين إلى التطبيق الكامل للقرار 2254، وعبره إلى التغيير الجذري الشامل.
خلاصات
لم تُشكّل التحولات الطارئة التي شهدها الملف السوري نقطة تحول جوهرية في العناوين الأساسية التي أطّرت هذا الملف. ورغم الاختراق السياسي المحدود الذي حققه التطبيع العربي والخليجي تجاه السلطة، وعودة الأخيرة إلى الجامعة العربية، وحضورها القمة العربية في جدة وعُمان، ورغم محاولات روسيا إعادة العلاقات السورية التركية، ورعايتها المباشرة لمسار المحادثات بين دمشق وأنقرة على المستويين الأمني والدبلوماسي، إضافة إلى جملة من الزيارات العربية والخليجية إلى دمشق، إلا أن ذلك لم يكن مدعاة للتفكير في انفراج سياسي يضع الملف السوري أمام منعطف يؤدي بشكل أو بآخر إلى التوصل إلى حل سياسي. حيث استمرت السلطة بتعطيل كل المسارات السياسية بما في ذلك عمل اللجنة الدستورية، ورفض معادلة خطوة مقابل خطوة التي كانت بمبادرة أردنية وضوء أخضر عربي وخليجي، والتي رعاها المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، الذي أعلن رسمياً فشل تلك المبادرة. الأمر الذي أدى إلى تعقيد المشهد السوري، ودخوله في إطار الجمود السياسي، والمراهنة على مسار “أستانا” الذي لم يعُد مساراً يُمكن الاعتماد عليه للتوصل إلى حلّ سياسي في سوريا.
ما قاله في وقت سابق المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا غير بيدرسن، إن سوريا لا تزال عالقة في أزمة شاملة والحل السياسي ليس وشيكاً، يُعد استشرافاً واضحاً للأزمة السورية والتعقيدات التي تؤطر هذا الملف. لكن وبنظرة أعمق، فإن الإشكاليات والتحديات تُعيق التوصل إلى حلّ سياسي في سوريا، كما أن هناك تناقضات يصعب فهمها تحديداً تلك المتعلقة بمسار الحل السياسي في سوريا. إذ إن كل الأطراف الفاعلة والمؤثرة في سوريا تتحدث عن ضرورة استمرار الحرب ضد الإرهاب دون تحديد معالمه، وفي الوقت ذاته الجميع يتحدث ويدعو إلى ضرورة الحفاظ على السلام، ومنع تقسيم الجغرافيا السورية، وضرورة التوصّل إلى حلٍّ سياسي يُنهي معاناة السوريين، لكن لا خطوات ملموسة تُترجم العناوين السابقة.
هذا الأمر يعكس الاستعصاء الحاصل في مسار العملية السياسية في سوريا، والتي تقودها القوى الإقليمية والدولية بإشراف الأمم المتحدة. لكن في عمق هذا المشهد فإن الوقائع تؤكد عدم نضوج الظروف للوصول إلى حلّ سياسي للأزمة. وبالتالي لم يعد مقبولاً اليوم الارتكان إلى العامل الخارجي فقط بشأن الحل السياسي في سوريا، ولا بد من تفعيل الحوار السوري السوري وبإشراف دولي مباشر، ووضع السلطة أمام أمر واقع يتعلق بضرورة التنازل. فالمسارات السياسية بشأن سوريا تتحدث فقط عن عناوين الأزمة، دون الولوج عميقاً وجدّياً ضمن أطر البحث عن حلول للأزمة السورية بمستوياتها كافة. كل ذلك يتطلب من السوريين اقتحام أبواب المُحرمات السياسية المفروضة من قبل السلطة وكافة القوى الفاعلة والمؤثرة في الملف السوري، وانتزاع الحل السياسي بقوة وتأثير مفاعيل القرار الأممي 2254.
عمار المعتوق – دمشق