لم يكن فجر يوم الـ 3 من آب/أغسطس عام 2014 في شنكال/سنجار التي تتبع إدارياً لمحافظة نينوى العراقية، فجراً كبقية الأيام، إذ استفاق الإيزيديون من نومهم على أصوات القصف والرصاص وحزم قوات الجيش العراقي وآلاف البيشمركة لحقائبهم وهروبهم من شنكال.
لم يكن الإيزيديون يدركون ما يجري، سوى أنهم أمام فرمان جديد ومرتكبه هذه المرة هو تنظيم “داعش” الذي ذاع صيته خلال فترة قصيرة من ظهوره في نيسان/أبريل عام 2013، نتيجة همجيته وقطعه لرؤوس الذين كان يهاجمهم وتفجيره للسيارات المفخخة في مداخل القرى والمدن والبلدات.
الموت في طريق الجبل
وعندما تيقّن الإيزيديون أنهم أمام فرمان جرى التخطيط له بشكل مسبق، اختاروا سلك طريق الجبال الوعرة للاحتماء بها. وما أن بزغ شمس الصباح، حتى كانت قرى شنكال تتعرض للقصف والهجوم الواحدة تلو الأخرى دون وجود أي قوة تحميها بعد أن هرب الجيش العراقي وقوات البيشمركة من المواجهة وتركوا الإيزيديين وجهاً لوجه أمام مجازر الإبادة.
أثناء توجه الإيزيديون نحو جبال شنكال التي ظلت عصية على الغزاة واستخدمها الإيزيديون للاحتماء من 73 فرماناً سابقاً بحقّهم على مدار قرون، مات عشرات الأطفال وكبار السّن من حرّ شهر آب والعطش والجوع.
وحدات حماية الشعب والمرأة تتدخل لحماية الإيزيديين
ومع انتشار نبأ المجازر التي ارتكبها تنظيم “داعش” بحق الإيزيديين في شنكال، هرعت وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة من شمال وشرق سوريا باتجاه جبل شنكال الذي كان محاصراً من قبل “داعش” ويأوي عشرات الآلاف من الإيزيديين الذين كانوا يفتقدون الماء والطعام في جبلٍ أجرد.
لم يكن الطريق سهلاً، فـ “داعش” كان يسيطر على عموم المنطقة المجاورة، ما أجبر وحدات حماية الشعب والمرأة، على الدخول في معارك ضد التنظيم، في بلدة ربيعة الحدودية ضمن الأراضي العراقية، واستمر بمحاربته حتى استطاع في يوم 8 آب/أغسطس، فتح ممر إنساني لإجلاء الإيزيديين المحاصرين.
وما أن تم فتح الطريق حتى هرعت شعوب شمال وشرق سوريا من الكُرد والعرب والسريان الآشور الكلدان، لمساعدة الإيزيديين، حيث توجّه الآلاف بسياراتهم وهم يحملون الماء والطعام إلى جبال شنكال وكانوا يعودون وبرفقتهم الإيزيديين، وبذلك استطاعت وحدات حماية الشعب والمرأة وأهالي شمال وشرق سوريا، إنقاذ آلاف الإيزيديين الذين خذلهم العالم أجمع.
اقرأ/ي أيضاً: إرهاب “داعش” المتزايد في سوريا.. ماذا يوفّر له الاحتلال التركي في الشمال؟
وظل مقاتلو ومقاتلات وحدات حماية الشعب والمرأة في جبال شنكال إلى جانب قوات الدفاع الشعبي وأهالي شنكال الذين يحملون السلاح، للدفاع عن الجبل والممر الإنساني من أجل إنقاذ الإيزيديين.
ضحايا بالآلاف لا يزالون ينتظرون الإنصاف
وعلى الرغم من أنه لا توجد بعد إحصائيات رسمية دقيقة عن عدد الضحايا والمفقودين في فرمان شنكال الأخير، بسبب وجود الكثير من المقابر الجماعية التي لم يجرِ فتحها بعد وإبادة أُسر عن بكرة أبيها في الفرمان، إلا أن إحصائيات المنظمات الدولية تقول إن تنظيم “داعش” قتل ما يزيد عن 3 آلاف إيزيدي، واختطف أكثر من 6800 آخرين، فضلاً عن تعرّض 1500 امرأة للاغتصاب الجماعي، وبيع أكثر من 1000 امرأة وشابة كسبايا في أسواق النخاسة بسوريا والعراق، إلى جانب تشريد ما يزيد عن 350 ألف إيزيدي.
وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة صنّفت مجازر “داعش” بحق الإيزيديين، بـ “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”، وأكدت أن الإيزيديين تعرّضوا لمحاولة إبادة، إلا أن الإيزيديين لم يجرِ إنصافهم حتى الآن، لا من قِبل الحكومة العراقية ولا من قِبل المجتمع الدولي.
وفي السياق أشارت الناطقة باسم وحدات حماية المرأة، روكسان محمد، أن الإبادة التي ارتُكبت في شنكال هي وصمة عار على جبين الإنسانية، وأكدت أن هجوم “داعش” حصل بدعمٍ من تركيا وكان الهدف منه إبادة الشعب الإيزيدي الذي يُعتبر من أقدم شعوب الشرق الأوسط. وقالت: “كانوا يريدون القضاء على الوجود والهوية والثقافة والأخلاق والقيم الإنسانية في شخص الشعب والمرأة الإيزيدية”.
ولفتت أن التراجيديا التي عاشها الإيزيديون لم يشهد لها التاريخ مثلاً من قبل، وأضافت: “لو كان الإيزيديون يمتلكون حينها قوة حماية خاصة بهم لما تعرضوا لتلك الإبادة”.
شنكال على خُطا شمال وشرق سوريا في الحماية
بعد مجازر الإبادة التي تعرّضوا لها، أدرك الإيزيديون أن أحداً لن يحميهم إن لم يبادروا هم بحماية أنفسهم، بعدما رأوا التجربة المطبّقة في شمال وشرق سوريا، وبذلك بدأ الإيزيديون في مخيمات النزوح بشمال وشرق سوريا بتنظيم أنفسهم، وكانت البداية، بتأسيس قوات حماية خاصة بهم سُمّيت “وحدات مقاومة شنكال (YBŞ)”، ومن ثم تشكيل وحدات المرأة في شنكال.
وأطلقت هذه القوات في شهر آذار/مارس عام 2015، حملة تحرير مدينة شنكال من قبضة تنظيم “داعش” وتكللت الحملة بالنصر عبر تحرير المدينة في الـ 13 من تشرين الثاني/نوفمبر 2015.
وبعد تحرير المدينة، شكّل الإيزيديون قوى أمنية لحماية الأهالي والسهر على أمنهم وأمانهم، باسم “أسايش إيزيدخان” وذلك في 6 تموز/يوليو 2016.
الإدارة الذاتية نموذج مُلهم يحقّق تطلعات الشعوب
ولأن نموذج الإدارة الذاتية المطبّق في شمال وشرق سوريا، يحقّق تطلعات الشعوب في الحرية والديمقراطية، قرّر الإيزيديون الاستفادة من هذه التجربة وإدارة مناطقهم بأنفسهم، وأعلنوا في الـ 14 من كانون الثاني/يناير عام 2015، تشكيل المجلس التأسيسي الإيزيدي ليكون نواةً للإدارة الذاتية، ليتحول المجلس عام 2017 إلى مجلس الإدارة الذاتية الديمقراطية لشنكال.
عودة الآلاف
بعد إرساء الأمن في شنكال، وضع الإيزيديون تنظيماً خاصاً بهم بعيداً عن الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، اللتان تركوهم أمام مجازر “داعش”، عاد آلاف الإيزيديين الذين كانوا متواجدين في مخيمَي نوروز وروج في شمال وشرق سوريا، ومن المخيمات في إقليم كردستان، إلى شنكال وبدأوا بإزالة الأنقاض والتأسيس لحياتهم من جديد.
وحدات حماية المرأة تحرر المئات من النساء الإيزيديات
وفي السنوات العشر الماضية على الفرمان، حملت وحدات حماية المرأة على عاتقها تحرير النساء الإيزيديات المختطفات على يد “داعش”، واستطاعت خلال الحملات المتلاحقة التي أطلقتها قوات سوريا الديمقراطية اعتباراً من عام 2015 ضد تنظيم “داعش”، وكذلك خلال الحملات الأمنية التي تم إطلاقها في مخيم الهول جنوبي الحسكة، من تحرير المئات من النساء الإيزيديات المختطفات.
وكانت آخر عمليات التحرير قبل أيام، حيث أعلنت وحدات حماية المرأة في الأول من آب/أغسطس الجاري، أنها استطاعت تخليص الشابتين عزيزة خالد علي (25) عاماً الآن، ونواف داوود جتو (24) عاماً والطفلة خوناف والتي اختطفت عندما كان عمرها شهرين فقط عام 2014.
وفي هذا السياق، أكدت روكسان محمد، أن وحدات حماية المرأة ومنذ بداية تأسيسها حملت على عاتقها حماية النساء ومن جميع المكونات بوجه جميع أشكال العنف والهجمات، وأثبتت ذلك من خلال حماية النساء الإيزيديات وتحرير المختطفات.
وأوضحت أن نضال وحدات حماية المرأة ما زال مستمراً لأن مصير العديد من النساء الإيزيديات ما زال مجهولاً، وأضافت: “ما دامت هناك امرأة إيزيدية واحدة مختطفة لدى “داعش”، فإن واجبنا التاريخي هو تخليص المختطفات”.
وأشارت، أن عملية تحرير النساء الإيزيديات مؤخراً هي دليلٌ على الإصرار في الانتقام من “داعش” وتنفيذ الوعد الذي قطعوه لشعبهم وللنساء بتحريرهم من أيدي “داعش”. وقالت: “سنقوم بكل ما يقع على عاتقنا لتحرير المختطفات”.
اقرأ/ي أيضاً: رحلة الموت.. شبكات التهريب والاختطاف على الحدود السورية اللبنانية
وأكدت روكسان محمد، أن هجمات “داعش” على شنكال ستبقى دوماً في ذاكرة جميع الشعوب التي كانت شاهدة على هذه المجازر التي لا يمكن وصفها.
خطر داعش ما زال موجوداً
ولفتت أنه على الرغم من القضاء على “داعش” جغرافياً إلا أن خطره ما زال قائماً على العالم أجمع، وأكدت أن ردّ شعب شنكال على الإبادة، هو بالعودة إلى شنكال والنضال بشكل أقوى للوقوف بوجه الفرمانات لأن مجتمع شنكال ما زال معرّضاً للهجمات.
قادة المجتمع الإيزيدي مستهدفون من قبل تركيا
إن لتركيا التي يقودها الآن رجب طيب أردوغان ذي الخلفية الإسلامية، أطماع جديدة قديمة في السيطرة على المنطقة التي تراها جزءاً مما تسميه “الميثاق الملّي” الذي خسرته بعد الحرب العالمية الأولى، فهي ترى في محافظات الموصل وكركوك ودهوك وأربيل والسليمانية في العراق وأجزاء من محافظات حلب، الرقة، الحسكة ودير الزور، جزءاً من امبراطوريتها البائدة التي تسعى لاستعادتها، وهي تسعى جاهدةً لاحتلال هذه المناطق.
ولتحقيق هذه الغاية، تريد تركيا السيطرة على شنكال لتميّزها بموقع استراتيجي ووجود جبال يمكن إقامة قواعد دائمة لها هناك، علاوة على قرب شنكال من مخيم الهول الذي يضم عائلات عناصر تنظيم “داعش” والذين ترغب تركيا بشدة إخراجهم من المخيم، ولذلك فهي تستهدف المجتمع الإيزيدي في شنكال بشكل مستمر، كنوع من الانتقام لهزيمة “داعش”.
وعلى مدار السنوات الماضية، شنّت الطائرات الحربية والمسيّرات التركية عشرات الهجمات على قضاء شنكال واستهدفت فيها قادة المجتمع الإيزيدي وخصوصاً الذين كان لهم دورٌ بارز في التصدي لهجمات “داعش”، وكانت أولى الهجمات بالطائرات الحربية يوم 25 نيسان/أبريل 2017 بالتزامن مع الهجمات على جبال قره جوخ في شمال وشرق سوريا.
وكان آخر تلك الهجمات في الـ 8 من تموز/يوليو الفائت، عندما استهدفت طائرة مسيرة تركية سيارة تقل صحفيين من قناة ÇIRA TV وراديو Çira FM، أسفرت عن فقدان مراسل الراديو مراد ميرزا إبراهيم لحياته وإصابة مراسلة القناة ميديا كمال حسن.
في فرمان الثالث من آب/أغسطس 2014 وأمام أعين العالم أجمع، كان يتم ذبح الإنسانية في شخص المجتمع الإيزيدي وشعب شنكال، ولكن رغم مرور 10 سنوات على مجازر الإبادة تلك، لا يزال الإيزيديون وخصوصاً ضحايا الفرمان ينتظرون أن يتم إنصافهم وتحقيق العدالة لهم عبر محاسبة الأطراف التي كان لها دورٌ في الإبادة.
وفي الختام أكدت الناطقة باسم وحدات حماية المرأة، روكسان محمد، أن على المجتمع الدولي محاسبة ومحاكمة الذين ارتكبوا مجازر إبادة في شنكال وكذلك محاسبة الدولة التركية لدعمها لـ “داعش” في ارتكاب تلك المجازر.