شهد الوضع المعيشي في الساحل السوري تدهورًا غير مسبوق، وصل إلى مستويات قياسية. وقد أدت السياسات الاقتصادية التعسفية للسلطة، الهادفة إلى تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة من المقربين وأصحاب النفوذ، إلى تفاقم الأزمة. كما ساهم العجز الاقتصادي، الناجم عن الفشل السياسي واستشراء الفساد المنظّم، في تعميق المشكلة. وقد نتج عن ذلك سيطرة جهات حكومية احتكارية غير رسمية على الاقتصاد المحلي، مما شكّل عبئًا إضافيًا عجزت السلطة عن مواجهته أو الحدّ من آثاره السلبية.
يسعى هذا التقرير إلى تسليط الضوء على المظاهر الأولية للمجاعة في الساحل السوري، معتمداً على لقاءات مع سكان وأطباء ومهتمين بالشأن العام، ممن يتابعون عن كثب حالة التدهور المعيشي في المنطقة.
الخبز.. الحاجز الأخير قبل الموت جوعًا
أضحى الخبز، في ظل الظروف الراهنة، الوجبة الرئيسية للسكان، حيث يعتمد عليه الكثيرون كمصدر أساسي للغذاء. يقول عامر ف. (45 عاماً): “ننتظر لساعة أو حتى ساعتين للحصول على الخبز، فلم يبقَ لنا شيء نأكله سواه”. ويضيف أن التأخر في الحصول على الخبز قد يعني قضاء يوم كامل في مصارعة الجوع بخبز متكسر ورديء النوعية.
وتفاقم المشكلة سوءاً ممارسات بعض الأفران، التي تلجأ إلى خلط الخبز القديم مع العجين الجديد، واستخدام أنواع رديئة من الخميرة، فضلًا عن تسريع عملية الخَبز لتوفير المازوت. كل هذه العوامل تؤدي إلى إنتاج خبز غير طازج وبجودة متدنية.
يؤكد فهد ع. (52 عاماً) أهمية الخبز في الوقت الحالي قائلاً: “نحن نأكل الخبز مع باقي الأطعمة”، موضحاً أن الأطعمة الأخرى أصبحت مجرد منكهات. وأضاف أنه مع عائلته المكونة من خمسة أفراد، يتناولون وجبة إفطار مكونة من بيضتين ورأسي بندورة فقط، معتمدين على الخبز الجيد لضمان الشعور بالشبع لبضع ساعات.
الخضار والفواكه كماليات للترفيه
مع تدني القدرة الشرائية بشكل حاد، أصبح شراء الفواكه والخضروات، ناهيك عن اللحوم بأنواعها، أمراً بعيد المنال بالنسبة لمعظم العائلات. يقول عمران ح. (55 عامًا): “راتبي الشهري يكفي لشراء 2 كغ من اللحم الأحمر فقط، وهي كمية لا تكفي أسرتي لوجبة غداء واحدة”.
اقرأ/ي أيضاً: غضب شعبي في «جرمانا» يكشف عجز السلطة عن حل الأزمات
ويؤكد نبيل أ. (60 عاماً)، صاحب بقالية في إحدى قرى الساحل، أن الزبائن الذين يشترون الفواكه أصبحوا نادرين. وأضاف أن معظم الزبائن يحاولون شراء المواد الأولية الخاصة بوجبة الغداء دون أن تتجاوز تكلفتها الثلاثين ألف ليرة سورية. كما لاحظ انخفاضاً كبيراً في مبيعات البيض والبندورة والبصل، رغم أنها من أرخص المواد وأقلها تكلفة.
وأشار نبيل إلى اعتماد معظم الناس على الحبوب كغذاء يومي رخيص نسبياً، مقدراً المصروف الشهري لأي عائلة بما لا يقل عن مليوني ليرة سورية للبقاء على حد الكفاف.
مؤشرات طبية وصحية مقلقة
بدأت علامات التعب والإرهاق تظهر جلية على وجوه السكان، إضافة إلى حالات من فقدان الوزن. وحول هذا الموضوع، يوضح الدكتور عز الدين ن. (63 عامًا) أن من أهم أعراض سوء التغذية فقر الدم وضعف المناعة والشعور الدائم بالإرهاق والتعب بشكل عام.
ويضيف الدكتور: “انخفض معدل الأعمار في الساحل بشكل كبير، وبسبب النقص الشديد في الغذاء الصحي، بدأت علامات سوء التغذية بالظهور”. كما أكد انتشار أمراض الجهاز الهضمي وأمراض الدم بشكل واسع بين السكان كنتيجة مباشرة لسوء التغذية.
اقرأ/ي أيضاً: أزمة الكهرباء في حماة.. بين عجز السلطات وتورط النافذين
وأشار الدكتور إلى عدم قدرة معظم الأهالي على الاستطباب وتلقي العلاج الدوائي والإشراف الطبي بسبب الفقر المدقع. وعند سؤاله عن رد فعل الكوادر الطبية والهيئات التابعة للسلطة حيال هذا الوضع، أكد غياب أي إجراءات فعالة من شأنها المساهمة في التخفيف من معاناة السكان.
لقد أصبحت لقمة العيش الكريم حلماً يراود جميع سكان الساحل السوري، بل وسكان مناطق سيطرة السلطة عموماً. ولم تقتصر المعاناة على الغذاء فحسب، بل امتدت لتشمل الخدمات الأساسية والبنى التحتية الضرورية لأمان وسلامة السكان، والتي باتت من المستحيلات في ظل الظروف الراهنة.
ورغم عجز السلطة الواضح عن تأمين لقمة العيش لمواطنيها، إلا أنها لا تُظهر هذا العجز في محاربة الفساد أو التخلي عن ممارساتها القمعية في كم الأفواه الجائعة وتكبيل الأيدي النحيلة. وفي ظل هذا الوضع المأساوي، يبقى السؤال: إلى متى سيستمر صمت المجتمع الدولي تجاه هذه المأساة الإنسانية المتفاقمة؟
أليمار لاذقاني – اللاذقية