تشهد مدينة عفرين السورية، الواقعة في الشمال الغربي من البلاد، تدهورًا بيئيًا غير مسبوق في السنوات الأخيرة. هذه المنطقة، التي كانت تُعرف بغاباتها الكثيفة وأشجارها الوارفة، باتت اليوم تفقد يومياً جزءاً من غطائها الأخضر. سياسات الاحتلال التركي أدت إلى أضرار هائلة على البيئة، ملحقة الضرر بالتربة والموارد الطبيعية كالغابات والمياه.
هذا التدهور البيئي لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة للصراع الدائر في سوريا منذ عام 2011. واستغلال النظام التركي لها فقد أثرت الحرب سلباً على الموارد الاقتصادية القابلة للاستدامة، وطالت حقوق الأجيال السورية القادمة في العيش في بيئة صحية ومستدامة.
وفقًا لدراسات حديثة، بما فيها تلك التي أجرتها اتفاقية برشلونة ومنظمة PAX، فإن سنوات الصراع المستمرة منذ عام 2011 قد تسببت في فقدان أكثر من ثلث مساحة الغابات في سوريا. وتعتبر منطقة عفرين من أكثر المناطق تضررًا في هذا السياق. هذه الدراسات، التي استندت إلى تحليل خرائط الاستشعار عن بعد للأراضي السورية، تقدم صورة مقلقة عن حجم الدمار البيئي الذي لحق بالمنطقة.
عفرين.. في قلب العاصفة البيئية
يؤكد صفوان داؤود، باحث سوري متخصص في التكيف القائم على الأنظمة البيئية (EbA)، أن منطقة عفرين تعد من أكثر المناطق تضرراً بيئياً في سوريا، يقول داؤود: “منطقة عفرين واحدة من أكثر المناطق تضرراً من الناحية البيئية، دون فصلها عما يحصل في بقية المناطق الاخرى في سوريا.”
اقرأ/ي أيضاً: فتح المعابر والطرق.. مخطط روسي تركي يعطل حل الأزمة السورية
ويضيف: “التعدي على المناطق الحرجية وتدمير النظم الأيكولوجية هو سمة من سمات الحرب السورية.” في حالة عفرين، فإن المسؤول الوحيد عن هذه الأضرار هو الاحتلال التركي ومرتزقته.
وحول الحلول الممكنة، يشدد داؤود على ضرورة إيجاد حلول شاملة وعميقة، قائلاً: “لا يمكن التفكير في حلول لهذه المنطقة دون ربطها بحلول شاملة وعميقة، لأن المسببات واحدة، مع ضرورة إيجاد حلول سياسية واجتماعية مؤطرة لحماية هذه البيئات واستدامتها التي باتت مطلب لجميع المناطق وليس منطقة بعينها”.
كما يحذر من خطورة استمرار تدهور الغطاء النباتي، موضحاً: “يساهم استمرارها إلى حد بعيد الى دفع الناس لترك أماكن استقرارهم والنزوح، وهذا سيؤدي بدوره الى تفاقم قضايا الامن والاستقرار المجتمعي وانتكاس حقوق الانسان الأساسية”.
جذور المشكلة.. لماذا تُقطع الأشجار؟
قبل الهجمات التركية في عام 2018، كانت مساحة الغابات الطبيعية في عفرين تبلغ 18,500 هكتار، تضم نحو 9 ملايين شجرة متنوعة بين الصنوبر والزيتون البري والقطلب والسنديان والسرو. أما الغابات الاصطناعية، فقد امتدت على مساحة 2,100 هكتار. بالإضافة إلى ذلك، كانت عفرين تشتهر بأشجار الزيتون، حيث بلغ عددها وفقًا لإحصائيات رسمية من الحكومة السورية صدرت عام 1998 نحو 16 مليون شجرة مثمرة وثماني مليون في طور الإنتاج. هذا التنوع البيئي الغني كان يشكل مصدر فخر للسكان المحليين ومورداً اقتصادياً هاماً.
تدمير طبيعة عفرين يأتي في إطار سياسة تركيا للقضاء على مصدر الحياة بالنسبة لأهالي عفرين وتهجيرهم. تقوم تركيا بتنفيذ هذه السياسة عن طريق الفصائل الموالية لها، والتي تنتفع بدورها من عمليات بيع الأشجار المقطوعة. تتم إزالة الأشجار لأسباب متعددة: بيعها كسلعة تجارية، تهريبها إلى مناطق أخرى مثل إدلب، استخدامها كوقود للتدفئة وصناعة الفحم، وحتى إزالتها بحجة البحث عن آثار في بعض المناطق مثل قرية أرندة وقرى في ناحية معبطلي.
هذه الممارسات لم تؤثر فقط على البيئة، بل أيضاً على الاقتصاد المحلي. فوفق إحصائية تعود لعام 2010، كانت الغابات وأشجار الزيتون تشكل 90 بالمئة من مساحة مدينة عفرين وكانت المصدر الرئيسي لدخل الأهالي. وقد جنت تركيا وفصائلها ملايين الدولارات من بيع الزيتون وزيت الزيتون المنتج في عفرين. اليوم، يعيش هؤلاء الأهالي ظروفًا قاسية نتيجة الجرائم المستمرة التي ترتكب بحقهم، في ظل رفضهم مغادرة المنطقة رغم سيطرة القوات التركية عليها.
حرائق مفتعلة تلتهم الأخضر واليابس
إلى جانب القطع الجائر، تشهد المنطقة حرائق واسعة النطاق. حيث تقوم الفصائل الموالية لتركية بأضرام النار والتسبب بهذه الحرائق، يقول رجب عبد الله خرفان، من الرئاسة المشتركة لهيئة الاقتصاد والزراعة في مقاطعة عفرين والشهباء: “الحرائق الأخيرة التهمت أكثر من 3,140 شجرة تعود ملكيتها لأهالي قرى عدامو وبليلكو وميدانا التابعة لناحية راجو”.
ويضيف خرفان محذرًا: “هناك خطر محدق بالثروة البيئية والأشجار في عفرين اليوم نتيجة الاحتلال التركي منذ 2018”. ويشير إلى أن هدف هذه الممارسات هو “إيذاء الأهالي وتهجيرهم وقطع أرزاقهم والاستيلاء عليها وتحويل عفرين لمنطقة جرداء”.
في الصيف الماضي، امتدت الحرائق في جبل هاوار على مساحة تزيد عن 250 هكتاراً، ملتهمة حوالي 2000 شجرة زيتون وكروم عنب في ناحية بلبل وقرية ديكة. كما طالت الحرائق 600 هكتار في ناحيتي راجو وشران.
أرقام مفزعة وواقع مرير
تقدر هيئة البيئة في مقاطعة عفرين والشهباء أن عدد الأشجار التي تم قطعها أو حرقها أو اقتلاعها في عفرين يصل إلى نحو 21 مليون و500 ألف شجرة. هذه الأرقام المفزعة تعكس حجم الكارثة البيئية التي تتعرض لها المنطقة.
اقرأ/ي أيضاً: حراك السويداء على أعتاب العام الثاني.. مسار التنظيم السياسي وتحديات التغيير
عمليات قطع الأشجار وحرقها، التي استمرت لسنوات، بدأت آثارها بالظهور بشكل جلي. فقد تحولت العديد من التلال والهضاب إلى مناطق جرداء، وأصبحت بعض الجبال أرضاَ خالية من الزرع. هذا التغيير الدراماتيكي في المشهد الطبيعي يهدد بتغيير وجه المنطقة بشكل دائم إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف هذه الممارسات.
صرخة في وجه الصمت الدولي
تتعالى أصوات السوريين الغاضبة في وقت تتزايد فيه انتهاكات حقوق الإنسان والبيئة على يد القوات الاحتلال التركي وفصائلها الإرهابية، وسط صمت دولي مطبق. يطالب الناشطون والمهتمون بالشأن البيئي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بالتدخل العاجل لوقف هذه الجرائم البيئية.
الغابات الحراجية والأشجار في عفرين ليست مجرد موارد طبيعية، بل هي جزء أساسي من هوية المنطقة وتراثها. استمرار تدميرها يشكل تهديدًا ليس فقط للبيئة، بل أيضاً للنسيج الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة.
إن استمرار هذه الممارسات يهدد بتحويل عفرين، التي كانت تُعرف بجمالها الطبيعي وثروتها الخضراء، إلى منطقة جرداء. وما لم تتمكن القوى السياسية والمجتمع الدولي من إصدار قوانين ملزمة وتطبيقها بصرامة لردع هذه الانتهاكات، فإن مستقبل النظم البيئية في المنطقة يبقى مهدداً.
في النهاية، يجب أن ندرك أن حماية البيئة تتجاوز حدود الصراعات السياسية، فالغابات والأشجار في عفرين هي إرث مشترك للأجيال السورية القادمة، ويقع على عاتقنا جميعاً واجب الحفاظ عليها وحمايتها من الدمار والاستغلال غير المسؤول.
إن التحرك السريع والحاسم لوقف هذه الممارسات ليس فقط ضرورة بيئية، بل هو أيضًا واجب أخلاقي تجاه الأجيال الحالية والقادمة.
لينا العلي – حلب