تشهد محافظة إدلب شمال سوريا أزمة إنسانية ومعيشية حادة في ظل السياسات الاقتصادية والإدارية التي تنتهجها “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقا)، المسيطرة على المنطقة. فمنذ بسط نفوذها على إدلب وأجزاء من محافظتي حلب وحماة، عمدت الهيئة إلى تأسيس منظومة اقتصادية محكمة تقوم على الاحتكار والخصخصة وفرض الضرائب والإتاوات. هذه السياسات أدت إلى تدهور الأوضاع المعيشية للسكان وتفاقم معاناتهم اليومية، مما أثار موجة من الاستياء والاحتجاجات الشعبية.
تناقض صارخ في الواقع المعيشي
يعكس الواقع اليومي في إدلب تناقضاً حاداً بين صورتين متباينتين. ففي حين تروج الدعاية الإعلامية للهيئة لصورة مزدهرة عن تطور خدمي واستثماري، بما في ذلك إنشاء مراكز تجارية فخمة ومشاريع عمرانية حديثة، يكابد غالبية السكان ظروفاً معيشية قاسية تفتقر لأدنى مقومات الحياة الكريمة.
يقول أحد سكان إدلب، الذي فضل عدم الكشف عن هويته: “نعيش في عالمين متوازيين. هناك فئة قليلة تتمتع برفاهية ملحوظة، بينما يصارع معظمنا لتأمين احتياجاتنا الأساسية. الارتفاع الهائل في الأسعار يجعل من الصعب علينا تلبية متطلباتنا اليومية”. وأضاف: “نرى المراكز التجارية الفاخرة تُفتتح، بينما نحن نعجز عن شراء الخبز. هذا التباين يعمق شعورنا بالإحباط والظلم”.
هذا الواقع المرير دفع العديد من الأهالي إلى ابتكار وسائل للتكيف مع الظروف الراهنة. فقد لجأ البعض إلى زراعة الخضروات في أفنية منازلهم، بينما اضطر آخرون إلى التخلي عن ممتلكاتهم لتغطية نفقاتهم اليومية. وفي ظل هذه الأوضاع، ازدادت ظاهرة عمالة الأطفال انتشاراً، حيث تجد العائلات نفسها مضطرة لإرسال أطفالها للعمل بدلاً من المدرسة لتوفير دخل إضافي.
هيمنة شاملة على الموارد والخدمات
سعت هيئة تحرير الشام إلى إحكام سيطرتها على مختلف القطاعات الحيوية في المنطقة، مستخدمة شبكة من الشركات والمؤسسات التابعة لها. فقد أسست منظومة متكاملة من الشركات الخاصة للتحكم في القطاع الخدمي والحيوي في مناطق نفوذها في إدلب، بهدف تعزيز مواردها المالية.
اقرأ/ي أيضاً: عفرين السورية تفقد 21 مليون شجرة على يد الاحتلال التركي
في قطاع الوقود، تهيمن شركة متخصصة على استيراد وتوزيع المشتقات النفطية. ورغم أن الشركة تقدم نفسها كمؤسسة مستقلة، إلا أن سيطرتها على الحصة الأكبر من سوق المحروقات ودعم “تحرير الشام” الواضح لها يؤكد ارتباطها المباشر بالهيئة.
أما في مجال الكهرباء، فتتولى إدارته شركة خاصة مرخصة من قبل المؤسسة العامة للكهرباء. هذه الشركة قامت على أنقاض شركة الكهرباء السابقة في إدلب، مستفيدة من البنية التحتية التي نقلتها الهيئة من مناطق أخرى قبل سيطرة القوات الحكومية عليها.
في قطاعي الاتصالات والإنترنت، تسيطر شركات معينة على السوق. هذه الشركات، رغم ادعائها الاستقلالية، تعمل تحت مظلة الهيئة وتخضع لتوجيهاتها.
حتى قطاع النظافة لم يسلم من الاحتكار، حيث تسيطر شركة متخصصة على خدمات جمع النفايات وتنظيف الشوارع. هذه الشركة تفرض رسوماً شهرية وضرائب على جميع المنازل والمحال التجارية في نطاق عملها.
في مجال النقل والمواصلات، تستحوذ شركة محددة على الحصة الأكبر من السوق. هذه السيطرة أدت إلى تضرر العاملين المستقلين في قطاع النقل وارتفاع تكاليف المواصلات على المواطنين.
هذا الاحتكار الشامل أدى إلى ارتفاع كبير في أسعار الخدمات الأساسية، مما زاد من الأعباء المالية على كاهل المواطنين. يقول أحد سكان إدلب: “أصبحنا ندفع أضعاف ما كنا ندفعه سابقاً مقابل الخدمات الأساسية. فاتورة الكهرباء وحدها تستنزف جزءاً كبيراً من دخلنا الشهري”.
التحكم في التجارة والاستيراد
لم يقتصر الأمر على القطاعات الخدمية، بل امتد ليشمل التجارة والاستيراد. فقد فرضت الهيئة نظاماً صارماً يحدد الجهات المسموح لها باستيراد السلع والبضائع. يقول أحد التجار المحليين: “أصبحنا مجبرين على شراء البضائع من موردين محددين بأسعار مرتفعة. هذا يحد من قدرتنا على المنافسة ويرفع الأسعار على المستهلك النهائي”.
وأضاف التاجر: “حتى عندما نحاول استيراد البضائع بأنفسنا، نواجه عقبات كثيرة وضرائب باهظة. الهيئة تتحكم في كل شيء، من المعابر الحدودية إلى أسواق الجملة”.
فرض الضرائب والإتاوات
تعمل الهيئة العامة للزكاة، التي أسستها هيئة تحرير الشام، على فرض ضرائب وإتاوات على مختلف الأنشطة الاقتصادية. هذه الممارسات أثارت استياء واسعاً بين السكان، الذين يرونها شكلاً من أشكال “الجباية القسرية”.
يقول أحد المزارعين: “يجبروننا على دفع نسبة من محصولنا قبل أن نتمكن من بيعه. هذا يقلص أرباحنا ويجعل من الصعب علينا الاستمرار في العمل”. وأضاف: “حتى أشجار الزيتون لم تسلم من فرض الزكاة. يأتون ويقدرون كمية الإنتاج ويفرضون علينا دفع نسبة منها، حتى قبل أن نتمكن من جني المحصول”.
هذه الممارسات لم تقتصر على المزارعين فحسب، بل شملت أيضاً التجار والصناعيين وحتى العاملين في مجال الصرافة. وقد أصدر تجمع القضاة ورجال القانون في إدلب بياناً في مايو/أيار الماضي أكدوا فيه أن الهيئة العامة للزكاة “غير قانونية وغير مستقلة”، وأنها مرتبطة بشكل مباشر بزعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني.
تداعيات إنسانية خطيرة
أدت هذه السياسات الاقتصادية إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في إدلب. فقد ارتفعت معدلات الفقر والبطالة بشكل كبير، وأصبح الكثيرون غير قادرين على تأمين احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والدواء.
تقول إحدى العاملات في منظمة إغاثية محلية: “نشهد تزايداً مستمراً في أعداد المحتاجين للمساعدات الإنسانية. الوضع أصبح كارثياً، خاصة مع تراجع الدعم الدولي وصعوبة وصول المساعدات بسبب القيود المفروضة”.
وأضافت: “نرى حالات متزايدة من سوء التغذية بين الأطفال، وأمراض يمكن الوقاية منها تنتشر بسبب نقص الأدوية والرعاية الصحية. الناس يضطرون للاختيار بين شراء الطعام أو الدواء، وهذا اختيار لا ينبغي أن يضطر أحد لاتخاذه”.
هذه الأزمة الإنسانية تفاقمت أيضاً بسبب سياسات الهيئة تجاه المنظمات الإغاثية. فقد فرضت الهيئة قيوداً على عمل هذه المنظمات وأجبرت بعضها على تسليم نسبة من المساعدات تتراوح بين 20 و30%. هذه الممارسات أدت إلى تقليص حجم المساعدات التي تصل فعلياً إلى المحتاجين.
واجهة مدنية لسلطة عسكرية
في محاولة لإضفاء الشرعية على ممارساتها، أنشأت ؤهيئة تحرير الشام” “حكومة الإنقاذ” كواجهة مدنية لإدارة المنطقة. لكن هذه الحكومة، وفقاً للكثيرين، ليست سوى أداة لترسيخ سيطرة “الهيئة” وتنفيذ سياساتها الاقتصادية.
يقول أحد الناشطين المحليين: “حكومة الإنقاذ مجرد واجهة. القرارات الحقيقية تُتخذ من قبل قيادة الهيئة العسكرية، والحكومة تنفذ فقط”. وأضاف: “نرى ذلك جلياً في كيفية إدارة الموارد والخدمات. فالشركات التي تدير هذه القطاعات مرتبطة بشكل مباشر بقيادات في الهيئة، رغم ادعائها الاستقلالية”.
اقرأ/ي أيضاً: فتح المعابر والطرق.. مخطط روسي تركي يعطل حل الأزمة السورية
هذه المحاولات للشرعنة شملت أيضاً إنشاء مؤسسات وهيئات مختلفة مثل المؤسسة العامة للاتصالات، والمؤسسة العامة للنقل، والهيئة العامة للرقابة والتفتيش، والمديرية العامة للمشتقات النفطية، والمؤسسة العامة للنقد، وغيرها. لكن رغم هذه الواجهة المدنية، فإن الممارسات على أرض الواقع تشير إلى استمرار السيطرة العسكرية المحكمة للهيئة على كافة مناحي الحياة في إدلب.
الاحتجاجات الشعبية
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية، شهدت إدلب ومدن أخرى في المنطقة موجات متتالية من الاحتجاجات الشعبية ضد سياسات هيئة تحرير الشام وممارساتها. وكانت مدينة بنش من أبرز المدن التي شهدت هذه الاحتجاجات.
في أواخر عام 2023، خرج المئات من سكان بنش في مظاهرات حاشدة احتجاجاً على ارتفاع أسعار المحروقات والخبز. رفع المتظاهرون شعارات تندد بسياسات الاحتكار وتطالب بتحسين الأوضاع المعيشية. يقول أحد المشاركين في هذه الاحتجاجات: “خرجنا لنقول كفى. لم نعد نحتمل هذا الظلم والجشع. نريد أن نعيش بكرامة ونتمكن من إطعام أطفالنا”.
هذه الاحتجاجات لم تقتصر على بنش وحدها، بل امتدت إلى مدن وبلدات أخرى في إدلب. ففي مدينة إدلب نفسها، شهدت الأسواق إضرابات متكررة احتجاجاً على الضرائب المفروضة وارتفاع الأسعار. وفي سرمدا، تظاهر العشرات أمام مقر شركة الكهرباء مطالبين بتخفيض الأسعار وتحسين الخدمة.
ردود فعل الهيئة على هذه الاحتجاجات تراوحت بين محاولات التهدئة ووعود بالإصلاح من جهة، والقمع والاعتقالات من جهة أخرى. يقول سامر وهو أحد الناشطين: “في البداية حاولوا امتصاص غضب الشارع بوعود كاذبة، لكن عندما استمرت الاحتجاجات، لجأوا إلى القوة. شهدنا اعتقالات لنشطاء ومتظاهرين في عدة مدن”.
رغم هذه الإجراءات القمعية، استمرت الاحتجاجات، وإن بوتيرة أقل، مما يعكس حجم الاستياء الشعبي من السياسات الاقتصادية للهيئة.
إن استمرار سياسات الاحتكار والتضييق الاقتصادي التي تنتهجها هيئة تحرير الشام في إدلب يهدد بتداعيات خطيرة على المدى الطويل. فإلى جانب تفاقم الأزمة الإنسانية، هناك مخاوف من تأثيرات اجتماعية واقتصادية عميقة.
هذه السياسات تؤدي إلى تدمير النسيج الاقتصادي للمنطقة، كما أن هناك مخاوف من تأثير هذه الأوضاع على التماسك الاجتماعي. فمع تزايد الفقر والبطالة، تزداد معدلات الجريمة والعنف.
يواجه سكان إدلب واقعاً معيشياً قاسياً في ظل سياسات “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقا) الاقتصادية. فالاحتكار والضرائب المرتفعة والقيود المفروضة على النشاط الاقتصادي أدت إلى تدهور مستوى المعيشة وتفاقم الأزمة الإنسانية. ورغم محاولات الهيئة إضفاء طابع مدني على حكمها، إلا أن الواقع على الأرض يشير إلى استمرار السيطرة العسكرية المحكمة.
بلال الأحمد – إدلب