بقلم: ثابت الجوهر
“وطننا هو العالم بأسره، وقانوننا هو الحرية، لا ينقصنا إلا الثورة في قلوبنا”. هذه الكلمات الملهمة للمسرحي وأيقونة المسرح الإيطالي الاحتجاجي الغاضب داريو فو تلخص مفهوم الوطنية من أوسع أبوابها. علينا كسوريين النظر إلى هذه الكلمات ليس كمجرد عبارات منمقة، بل كمبدأ عمل وهدف. يجب علينا التمعن فيما تحمله في طياتها، وقراءة ما تخفيه حروفها لنخرج جميعًا من عنق الزجاجة.
إن الوطنية مفهوم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالهوية والانتماء، وهي تعبر عن الشعور بالولاء لوطن معين. في السياق السوري، يشكل تعزيز الوطنية بجميع مفاهيمها جزءاً أساسياً من عملية بناء السلام والاستقرار، خاصة في ظل التحديات التي تواجهها البلاد منذ سنوات. فحالة التشظي التي فُرضت على سوريا، تارة بحكم خارطة السيطرة العسكرية والتوجه السياسي، وتارات أخرى بحكم المصالح الإقليمية والدولية، قد تقاطعت على هذه الرقعة الجغرافية التي عانت من لعنة الجيوبولتيك.
بينما يحمل السوريون على عاتقهم لواء الوطنية، كلٌ في مكانه وكلٌ حسب توجهه، يسعى الجميع إلى تحقيقها بمنظوره الخاص. وهكذا، يتحول هذا المفهوم إلى مفهوم فضفاض تحكمه دوغمائية الفكر والمنطق “وإن لم تكن معي فأنت ضدي”. وعليه، بات البحث عن تعزيز الوحدة الوطنية وتقوية الروابط بين مختلف الفئات الاجتماعية والعرقية ضرورة وجودية لنا كسوريين، لتصبح عنصراً أساسياً في تحقيق التعايش السلمي والتنمية المستدامة.
اقرأ/ي أيضاً: بين الدبلوماسية والتصعيد.. تعقيدات الصراع الإيراني الإسرائيلي
قد تتحقق الثورة بمفهومها المادي على الأرض في مواطن معينة على الرقعة السورية، لكن الثورة الحقيقية هي تلك التي تشمل القلب والفكر والوجدان. وهذا ما قصده داريو فو وما سلطنا الضوء عليه في مطلع مقالنا. إنه ما يحتاجه السوريون اليوم للملمة شتاتهم وإعادة ترتيب أوصالهم التي قطعتها المصالح الدولية والإقليمية.
لقد انقشع غبار سراب الدعم الدولي الذي ظنه السوريون في بادئ الأمر ماءً، واتضحت الرؤية اليوم وتعرت الحقائق. لم يعد للسوريين سبيل إلا العودة إلى الوطنية، لكن الوطنية هنا ليست من زاوية المصالح الضيقة، إنما الوطنية من أوسع أبوابها. إنها تقبل الآخر على أساس الهوية الجامعة، أما العرق واللون والتوجه الفكري فهو الحرية التي وصفها فو بالقانون. يجب أن يكون قانوننا الحرية، وأن يكون وطننا بالنسبة لنا العالم بأسره، وأن تكون الثورة الحقيقية في قلوبنا.
ومن هذا المنطلق، وحتى يرى السوريون جميعهم أنهم معنيون بهذه الثورة الفكرية، يجب علينا النظر إلى التعددية واللامركزية، اللتين تُعتبران من أبرز العناصر الأساسية لتحقيق الوحدة الوطنية في سياقات متنوعة. فالتعددية تعني الاعتراف بتنوع الأفكار والآراء والتوجهات، مما يعزز الحوار والتفاهم بين مختلف الأطراف.
أما اللامركزية فتسمح بتوزيع السلطات والمسؤوليات على مستويات محلية، مما يعزز قدرة المناطق على إدارة شؤونها بشكل مستقل ويشجع المشاركة المجتمعية بشكل مباشر. وبالتأكيد، فهي باب من أبواب التشجيع على الحوار الشامل الذي يضمن فتح قنوات تواصل بين جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني. هذا الحوار يجب أن يكون قائماً على الاعتراف بحقوق الجميع ومصالحهم دون إقصاء أو تجاوز أو تخوين.
اقرأ/ي أيضاً: مجلس سوريا الديمقراطية.. مساعٍ متواصلة لتوحيد الصف السوري
ومن المعلوم أن تحقيق هذا الحوار يحتاج إلى “تعزيز الثقة” بين الأطراف المتنازعة، لأن الأزمة حقيقية وعميقة وتبدأ من بناء الثقة. وهو تحدٍ أمام السوريين وأمر حاسم بلا شك. وفي الوقت عينه، يمكن تحقيق ذلك من خلال خطوات ملموسة مثل تشكيل لجان مشتركة ومشاريع تعاون محلي.
لقد فشلت الأطراف المعنية فيما يسمى باللجنة الدستورية في صياغة دستور، ومن أهم العوامل التي قادت للفشل هي حالة الإقصاء أولاً، وثانياً انعدام الثقة بين الأطراف المعنية. ذلك لأن هذه اللجنة كانت توليفة إقليمية ودولية تمخضت عن سوتشي. إن صياغة دستور جديد تحتاج أولاً لبناء الثقة “السورية السورية”، ومن ثم الخروج بدستور جامع يتوافق عليه السوريون. فمبدأ قبول الآخر سيجتث كل محاولات التشكيك بوطنية الآخر أيضاً، ويعكس التعددية السورية ويضمن حقوق جميع الفئات. ولضمان حقوق الجميع، يجب أن يتضمن الدستور مبادئ اللامركزية وتمثيلاً متوازناً لجميع الأطراف.
فليبدأ السوريون في الحوار “السوري-السوري” بعيداً عن الإملاءات الخارجية الإقليمية منها والدولية. إن الحوار “السوري-السوري” الذي من شأنه معالجة قضايا التعددية واللامركزية بطرق فعالة وعادلة سيكون الركيزة لحوار وطني شامل، قائم على بناء الثقة، وتطوير إطار دستوري عادل، وإصلاح المؤسسات، ونشر ثقافة التسامح، ومعالجة القضايا الإنسانية. ومن هنا يمكن القول حينها أن السوريين حققوا إنجازاً يحمل في طياته بوادر حل وطني جامع يؤدي إلى استقرار البلاد وتحقيق السلام. ويمكننا القول حينها أن السوريين دخلوا من أوسع أبواب الوطنية.
ثابت الجوهر
الأمين العام لحزب الوطن السوري