مع تبدل الواقع العسكري على الأرض، عقب التدخل الروسي إلى جانب السلطة في دمشق والسيطرة على نحو 63% من مساحة البلاد، لجأت الأخيرة وبرعاية روسية في عام 2018، إلى اتباع مسار ترتكز محدداته على إجراء تسويات في المناطق التي سيطرت عليها ولكنها ظلت غير قادرة على فرض قبضتها الأمنية فيها.
إن نموذج التسويات بمفهوم السلطة، يتم تسويقه على أنه انتصار بالاستناد إلى عودة دوائر ومؤسسات السلطة إلى المنطقة المستهدفة بالتسويات، ولكنه في حقيقة الأمر، نظام جرى تطبيقه على السوريين بالقوة وتحت التهديد بالقصف وتدمير ما تبقى، حيث روجت السلطة مع هذه التسويات لمشروعها الذي أسمته “العودة إلى حضن الوطن” والذي يُظهر السوريين الذين ثاروا ضدها مطالبين بحقوقهم المشروعة على أنهم مفتعلون للمشاكل وأن السلطة هي على صواب والشعب على خطأ وأن من يجري التسويات هو شخص سيء وندم على أفعاله والسلطة تعفو عنه.
ولكن هذا النموذج الذي بدأت دمشق بتطبيقه انطلاقاً من درعا عام 2018، أثبت فشله، إذ لم تستطع الأجهزة الأمنية لدى السلطة إيقاف عمليات الاغتيال والخطف وأحداث العنف وتجارة المخدرات والتي يقف المسلحون العاملون مع أفرعها الأمنية خلف غالبيتها.
ويدرك السوريون وغالبية المنخرطين في نظام التسويات، بأن السلطة إنما تحاول عبر هذا الأسلوب إعادة هيبتها بطرق أمنية ضاغطة على السوريين، خصوصاً أن مناطق التسويات شهدت عمليات اغتيال عديدة طالت معارضين للسلطة، فضلاً عن أن مناطق التسويات بقيت خارج اهتمام السلطة اقتصادياً ومجتمعياً وعلى صعيد الخدمات، وبالتالي تلاقي هذه التسويات رفضاً شعبياً لأن الخلل الأساسي يكمن في سياسات السلطة وذهنيتها الأمنية وعدم سعيها لإزالة الأسباب التي انطلق السوريون في ثورتهم من أجلها.
تهديد ووعيد
تواصل السلطة بإصرار اتباع نظام التسوية الأمنية في مناطق سيطرتها، رغم حالة الرفض الشعبي واللامبالاة الشعبية تجاهها، واليوم تعود إلى واجهة المشهد في سوريا، عمليات التسوية في محافظة حمص وتحديداً في مدينة تلبيسة، وكذلك محافظة القنيطرة، ولكن رغم محاولات السلطة تسويق عمليات التسوية على أنها انتصار وعودة الحياة الطبيعية والمستقرة، إلا أن المعطيات على أرض الواقع تؤكد بأن السلطة ورغم فرضها هذا النظام، إلا أنها غير قادرة على ضبط الأمن والاستقرار في تلك المناطق.
اقرأ/ي أيضاً: سوريا ساحة حربٍ بالوكالة.. كيف يستفيد “داعش” من كل ذلك؟
ففي مدينة تلبيسة بمحافظة حمص، تقول مصادر من المدينة، إنه قبيل إطلاق التسوية، عُقد اجتماع أمني في أحد أحياء المدينة، وحضره رئيس شعبة المخابرات العامة اللواء حسام لوقا، ورئيس اللجنة الأمنية في حمص اللواء أحمد معلا، وشارك فيه أيضاً عدد من وجهاء وأبناء مدينة تلبيسة، وأكدت المصادر بأن اللواء لوقا ارتفعت نبرة صوته مهدداً بإحالة المدينة ركاماً، وتذرع بأن كميات الأسلحة التي تم تسليمها غير كافية، وأن أبناء المدينة يخططون لعمليات أمنية وعسكرية ضد التواجد الأمني للسلطة في المدينة.
أهالي مدينة تلبيسة عبروا عن رفضهم لطريقة تعاطي السلطة في فرض التسويات، وما أكده الأهالي بأن تصريحات اللواء لوقا وتهديداته، تعبر صراحة عن نوايا السلطة تجاه مدينتهم.
الكيل بمكيالين
وفي السياق أكد عبد العزيز الصلوح من تلبيسة، أن الأهالي في المدينة قدموا كل ما يتوجب عليهم بغية تسهيل عمل لجنة التسوية، وذلك ليس من باب الخوف، بل رغبة في حقن دماء أبناء المدينة، وعدم إعطاء السلطة وأجهزتها الأمنية وميليشياتها ذريعة اقتحام المدينة، وتشريد سكانها.
الصلوح تساءل عن سبب فرض السلطة لنظام التسوية على أهالي مدينة تلبيسة وعدم تطبيق ذلك في القرى المحيطة بها والخاضعة لسيطرة حزب الله اللبناني وإيران، وقال: هل لهذه القرى حصانة نتيجة دعم إيران وحزب الله لها؟
الوعود ذهبت أدراج الرياح
وفي ذات السياق، قال مؤيد قيسون وهو عضو سابق في لجان التسويات في ريف دمشق، إن أفرع المخابرات التابعة للسلطة وإبان القيام بأي تسوية “كانت تطلب منا قوائم الذين يرغبون بتسوية وضعهم”، مشيراً أن البلدات التي شهدت عمليات تسوية تشهد حتى الآن حالة من اللا استقرار الأمني والأمثلة كثيرة في توضيح ذلك.
وأضاف: “كانت المخابرات تقوم باعتقال عدد من الذين قاموا بالتسوية بعد أيام من إجرائها، سواء على أحد الحواجز العسكرية، أو من خلال القيام بمداهمة المنازل، وعند مطالبتنا بتوضيح الأمر يُقال لنا “أمن الدولة خط أحمر”.
ويوضح قيسون، أن أفرع مخابرات السلطة تستغل مراكز التسوية التي تم افتتاحها برعاية روسية أو إيرانية من أجل جمع أكبر عدد ممكن من الأسلحة، وهذا ما يؤكد نوايا السلطة تجاه معارضيها، لكن في المقابل يقول قيسون، بأن التسويات التي حدثت “لا تعبر عن انتصار سياسي للنظام بل هو فشل واضح، فكل مناطق التسويات شهدت عمليات اغتيال واعتقال وتغييب للكثير من معارضي النظام، وكل الوعود التي قدمها النظام عن عودة الاستقرار والحياة الطبيعية ذهبت أدراج الرياح، وفي تسوية درعا خير دليل، وبالتالي فإن التسويات في القنيطرة وتلبيسة مصيرها الفشل المحتوم، لأن الإشكالية الأساسية هي في حالة الرفض الشعبي لبقاء السلطة، وهذا جوهر الأمر”.
مسرحية هزلية
يبدو واضحاً بأن غاية السلطة الأساسية في معادلة التسويات، هو الترويج الإعلامي بأن السلطة تُعيد وتستعيد هيمنتها التي تبددت مع أول هتاف بإسقاطها ورحيلها، كما أنها تريد الترويج بأن الواقع السوري يعود إلى ما كان عليه قبل عام 2011، وأن الجميع يريد العودة إلى ما يقال عنه “حضن الوطن”.
اقرأ/ي أيضاً: تقنين الكهرباء وسرقة السوريين بالبدائل المكلفة
ولكن على الأرض الواقع مختلف تماماً، فبخلاف ما تسوّق له السلطة بأن التسويات تشهد إقبالاً كثيفاً، يؤكد المواطن كمال (42 عاماً) من أبناء محافظة درعا، إن التسويات التي شهدتها محافظة درعا لم تكن إلا مسرحية أبطالها مجرمون في سجون السلطة خرجوا بموجب التسويات، لينضموا إلى ميليشيات السلطة ويقوموا بتصفية معارضيها، أما الثوار الحقيقيون فإن غالبيتهم رفضوا التسويات، وأصروا على مواقفهم ورفضهم لبقاء السلطة جاثمة على صدور السوريين، لكن بعضهم قُتل في ظروف غامضة.
ويضيف كمال، أن “المشاهد التي يبثها إعلام السلطة عن الأعداد الكبيرة في مراكز التسويات، ليسوا إلا عناصر أمنيين تابعين للسلطة، ويتم تصويرهم على أنهم راغبون بالعودة إلى حضن الوطن”.
لا نهر يرجع إلى الوراء
إن ما تشهده مناطق التسويات من فلتان أمني واغتيالات واختطاف وتجارة للمخدرات والتي أبطالها هم مسلحون يعملون مع الأفرع الأمنية لدى السلطة، يؤكد بأن التسويات التي حدثت في مناطق سيطرة السلطة، هو أسلوب فاشل ولن تستطيع السلطة استعادة سطوتها الأمنية كما السابق نظراً للرفض الشعبي الواسع لها.
فمن خرج مطالباً بالحرية والديمقراطية، لن يقبل بأن يتم وصفه بخائن ندم على أفعاله وعاد إلى “حضن الوطن” حتى وإن سعت السلطة في دمشق للترويج لنجاح أسلوبها هذا وإرسال رسالة إلى المجتمع الدولي بأنها تتسامح مع من حملوا السلاح بوجهها.
سحر الحمصي- حمص