في ظل الدمار الذي خلّفته سنوات الحرب في سوريا، تبرز ظاهرة جديدة تثير الاستغراب والغضب لدى السوريين. فبدلاً من إعادة الإعمار وتسهيل عودة النازحين، تقوم السلطة بتدمير الأبنية المتبقية في المناطق التي شهدت اشتباكات، محوّلة الخراب إلى مصدر للثروة عبر ما بات يُعرف بـ”تجارة الأنقاض”.
هدم ممنهج باسم السلامة العامة
تتناقل وسائل التواصل الاجتماعي بشكل متكرر مقاطع فيديو وأخباراً عن قيام السلطة بتدمير أبنية طابقية، حتى تلك التي يقوم مالكوها بترميمها. هذه الممارسات تحدث دون أي سند قانوني واضح، مما يثير حالة من الدهشة والاستنكار بين السوريين.
يبدو أن السلطة في دمشق تنتهج سياسة انتقامية جديدة ضد معارضيها، تتجلى في التدمير الممنهج للأبنية في المناطق التي شهدت اشتباكات، والتي نزح سكانها هرباً من القتل والتنكيل وممارسات الأجهزة الأمنية.
تجارة الأنقاض.. الوجه الخفي للدمار
خلال الأشهر الماضية، دأبت السلطة على تدمير أبنيةٍ في عدد من مدن وقرى التسويات، بما فيها مناطق في دمشق مثل حي جوبر، وكذلك في ريف دمشق الجنوبي الذي شهد تسويات بين عامي 2016 و2018.
اقرأ/ي أيضاً: درعا بعد التسوية.. صراع متجدد نحو الأمن المفقود
يرى كثيرون أن هدف السلطة من عمليات الهدم هو إنعاش ودعم “تجارة الأنقاض” التي تقوم بها الفرقة الرابعة والمرتبطون بها عبر تجارة الحديد والإسمنت. هذا النشاط يأتي بعد الهدوء النسبي الذي ساد في مناطق سيطرة السلطة نتيجة توقف المعارك.
رغم أن القانون السوري يقضي بإزالة أنقاض الأبنية المتضررة لأسباب طبيعية أو غير طبيعية، إلا أن غاية هذا القانون هي توصيف المنشآت المدمرة والمتضررة، وترحيل الأنقاض وتوزيع نفقاتها على مستحقيها. لكن السلطة تتجاوز هذا الإطار، إذ تقوم بهدم كل شيء وتحرم المدنيين من العودة إلى منازلهم، لتتاجر بالأنقاض على مرأى من أصحابها.
من الحجارة إلى الخردة.. اقتصاد الدمار
بعد هدوء الجبهات في غالبية المناطق السورية، بدأت السلطة عبر أذرعها الاقتصادية بعمليات جمع الأنقاض واستخراج المعادن والخردة منها لبيعها. في السابق، كانت هذه الممارسات تتم بشكل فردي، حيث يقوم عناصر تابعون للفرقة الرابعة بالاستيلاء على قطاعات في مناطق الاشتباكات لاستخراج الحديد والمعادن وبيعها لمكاتب الأنقاض التابعة لمكتب أمن الفرقة.
لكن مؤخراً، أصبحت هذه العمليات أكثر تنظيماً. فتجار الحرب، الذين لم يعد أمامهم سوى الانقضاض على منازل السوريين، يقومون بهدمها والمتاجرة بأنقاضها. من جانبها، تسعى السلطة إلى إيجاد مصدر مالي جديد في ظل الدمار الهائل الذي يشكّل فرصة لدعمها مادياً.
منع العودة استراتيجية متعمدة
تشير وقائع عديدة إلى أن السلطة ترفض عودة النازحين إلى مناطق سكنهم، بهدف تسليم تلك المناطق لمتعهدي بناء تابعين لها للاستمرار في تجارة الأنقاض. تمنع الفرقة الرابعة المدنيين من العودة تحت ذرائع متعددة، مثل احتمال عودة “الإرهاب” أو أن الأبنية آيلة للسقوط.
بناءً على ذلك، تواصل السلطة عمليات هدم الأبنية في مناطق سيطرتها، دون التفريق بين المباني التي تشكّل خطراً حقيقياً على السلامة العامة وتلك السليمة أو القابلة للترميم. هذا يشكل انتهاكاً صريحاً للملكيات العقارية وحقوق أصحابها الأصليين.
داريا نموذج للتدمير الممنهج
تُعد مدينة داريا شرق دمشق مثالاً واضحاً على هذه الممارسات. فمنذ إعادة سيطرة السلطة عليها، يُمنع المدنيون من العودة إلى منازلهم. تواصل آليات شركات المقاولات التابعة للفرقة الرابعة هدم الأبنية في المدينة دون تمييز، متجاهلة حتى تقييمات لجنة السلامة الإنشائية التابعة لمديرية الخدمات الفنية في محافظة دمشق.
اقرأ/ي أيضاً: العام الدراسي عبء يثقل كاهل السوريين في مناطق السلطة
يروي حسان المصري (56 عاماً)، وهو نجار موبيليا من داريا، كيف يتم تكسير المنازل وسحب الحديد منها، حتى من المنازل السليمة. رغم الموافقة الرسمية على عودة 3200 عائلة في نيسان/أبريل من العام الماضي، لم يُسمح لأحد بالعودة فعلياً، والأمر بقي بيد الفرقة الرابعة.
حمص نمط متكرر من الاستيلاء والهدم
الوضع في مدينة حمص لا يختلف كثيراً. تمنع الفرقة الرابعة عودة المدنيين إلى الأحياء المدمرة مثل باب عمرو وباب هود وحي السباع، لتتمكن من هدمها بالكامل. اللافت أن الفرقة الرابعة وقّعت عقداً مع شركة “جهاد للتعمير” التي يديرها أفراد تابعون لحزب الله، متجاهلة مؤسسات الدولة الرسمية مثل “الإسكان العسكري”.
يؤكد المحامي جلال مغمومة أن العديد من المدنيين لجؤوا إليه لمتابعة قضايا تتعلق بالاستيلاء على منازلهم في أحياء مختلفة من حمص. الغريب أن أشخاصاً لبنانيين يساعدون الفرقة الرابعة في الاستيلاء على المنازل وكتل أبنية كاملة، دون إبراز أوراق رسمية تجيز لهم ذلك.
استراتيجية مزدوجة: التهجير والاستثمار
يبدو واضحاً أن السلطة تعمل في اتجاهين متوازيين. الأول هو منع عودة المدنيين الذين نزحوا من المناطق التي شهدت اشتباكات عنيفة، بهدف وضع اليد عليها وتغيير واقعها الديمغرافي. والثاني هو ما يسميه السوريون “تشفية مناطق الاشتباكات”، أي سرقة الحديد والأنقاض للمتاجرة بها.
هذه الممارسات تعكس استراتيجية أوسع للسلطة في دمشق، حيث تستولي على مناطق الاشتباكات وتحرم المدنيين من العودة إليها. الفرقة الرابعة امتهنت سرقة الحديد والألمنيوم والنحاس من المنازل المدمرة، متذرعة بإزالة الردم ومخلفات الحرب أو التمهيد لإعادة الإعمار.
في النهاية، يجد السوريون أنفسهم في وضع لا يُحسدون عليه، حتى في المناطق التي لم تشهد اشتباكات. فهم يشعرون بأن منازلهم التي يسكنونها حالياً قد تُسلب منهم في أي لحظة، تحت ذريعة أنهم “لا يريدون بقاء السلطة”. وهكذا، تتحول مأساة الحرب والدمار إلى فرصة استثمارية للسلطة، على حساب حقوق المواطنين وآمالهم في العودة وإعادة بناء حياتهم.
عمار المعتوق- دمشق