تشهد منطقة شمال غرب سوريا، وإدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي، أزمة إنسانية حادة تتفاقم يوماً بعد يوم. في هذه البقعة المنكوبة، يعيش أكثر من أربعة ملايين سوري في ظروف قاسية، معتمدين بشكل أساسي على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة. لكن هذه المساعدات، التي تمثل شريان الحياة للسكان، أصبحت محور صراع ووسيلة للسيطرة والاستغلال من قبل القوى المسيطرة على المنطقة.
هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، القوة المهيمنة على إدلب ومحيطها، تقوم بممارسات منهجية لاستغلال المساعدات الإنسانية. هذه الممارسات تشمل تحويل كميات كبيرة من المواد الإغاثية لصالح مقاتليها، وبيعها في السوق السوداء، وفرض رسوم على المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة. هذا الواقع المرير يضاعف من معاناة السكان المحليين، الذين يواجهون يومياً شبح الجوع والمرض في ظل ظروف اقتصادية متدهورة وبنية تحتية منهارة.
المساعدات تحت سيطرة الهيئة
تؤكد التقارير الحقوقية أن هيئة تحرير الشام تفرض سيطرة كاملة على عملية توزيع المساعدات الإنسانية في المناطق الخاضعة لنفوذها. هذه السيطرة تتجلى في عدة أشكال، منها احتكار عملية التوزيع، وتوجيه المساعدات إلى مناطق محددة دون غيرها، وفرض رسوم على المنظمات الإغاثية.
اقرأ/ي أيضاً: تجارة الأنقاض.. كيف تحوّل السلطة دمار الحرب إلى مصدر ثروة
يقول خالد، وهو عامل في إحدى المنظمات الإنسانية المحلية: “نواجه صعوبات جمة في إيصال المساعدات لمستحقيها. فالهيئة تتحكم في كل شيء، بدءاً من دخول الشاحنات وحتى توزيع المواد على الأسر. كثيراً ما نجد أنفسنا مجبرين على توزيع المساعدات وفق قوائم معدة مسبقاً، دون أن نتمكن من التحقق من احتياجات المستفيدين الفعلية”.
سوق سوداء للمساعدات
تشير الأدلة الموثقة إلى وجود سوق سوداء نشطة للمساعدات الإنسانية في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام. فالمواد الغذائية والطبية التي يفترض توزيعها مجاناً على المحتاجين، تجد طريقها إلى الأسواق المحلية بأسعار مرتفعة.
أحمد، صاحب متجر صغير في إدلب، يؤكد هذا الواقع قائلاً: “نرى بأعيننا كيف تصل بضائع تحمل شعارات المنظمات الإغاثية إلى الأسواق. هذه المواد تباع بأسعار لا يستطيع معظم الناس تحملها. من الواضح أن هناك من يستفيد من معاناة الناس”.
معاناة النازحين والأزمة الاقتصادية
في ظل هذه الظروف، يعاني النازحون في المخيمات المنتشرة في شمال غرب سوريا بشكل خاص. فهؤلاء، الذين فروا من مناطق النزاع الأخرى، يجدون أنفسهم في مواجهة واقع مرير حيث تشح المساعدات وتصبح الحياة اليومية صراعاً من أجل البقاء.
تقول أم محمد، نازحة تقيم في أحد مخيمات ريف إدلب: “نقف ساعات طويلة للحصول على حصة غذائية لا تكفي أسرتي لأيام معدودة. وفي كثير من الأحيان، نعود خاليي الوفاض بعد نفاد المخزون. لا نعرف كيف سنطعم أطفالنا في الأيام القادمة”.
اقرأ/ي أيضاً: درعا بعد التسوية.. صراع متجدد نحو الأمن المفقود
مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في سوريا وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية بأكثر من 90% في عام 2023، أصبحت المساعدات الإنسانية أكثر أهمية من أي وقت مضى. لكن استغلال هذه المساعدات يزيد من حدة الأزمة الإنسانية.
يشرح أبو محمود، مزارع من ريف إدلب، الوضع قائلاً: “الأسعار ارتفعت بشكل جنوني، والعملة فقدت قيمتها. لم نعد قادرين على شراء حتى الخبز. المساعدات كانت أملنا الوحيد، لكنها الآن أصبحت نادرة ويصعب الحصول عليها”.
أرقام تكشف عمق المأساة
في ظل هذه الأزمة الإنسانية المتفاقمة، تكشف الإحصاءات الأخيرة عن واقع مرير يعيشه سكان شمال غرب سوريا. فوفقاً لمؤشر خط الجوع والفقر للعائلات في المنطقة لشهر تموز 2024، تبلغ نسبة العائلات التي تعيش تحت خط الفقر الغذائي 88.82% من إجمالي السكان. هذه الأرقام تعكس حجم المعاناة اليومية التي يواجهها الملايين في المنطقة، حيث يصبح الحصول على الغذاء والضروريات الأساسية تحدياً يومياً.
المعابر الحدودية شريان حياة وأداة سياسية
تلعب المعابر الحدودية في شمال سوريا دوراً محورياً في الأزمة الإنسانية. معبر باب الهوى، على وجه الخصوص، يكتسب أهمية استثنائية كونه المنفذ الوحيد المتبقي لدخول المساعدات الأممية إلى شمال غرب سوريا.
منذ عام 2014، أصبح تمديد عمل معبر باب الهوى موضوع صراع سياسي في مجلس الأمن الدولي. روسيا، حليفة السلطة في دمشق، نجحت في تقليص عدد المعابر المفتوحة من أربعة إلى واحد، وفي تقصير مدة التمديد من عام كامل إلى ستة أشهر فقط.
يضيف محمود، أحد سكان مخيمات النازحين في إدلب: “نعيش في رعب دائم. كل مرة يقترب فيها موعد تمديد عمل المعبر، نشعر وكأن حياتنا معلقة على قرار سياسي بعيد عنا”.
دعوات لتدخل دولي وحلول مستدامة
في ظل هذه الأزمة المتفاقمة، تتعالى الأصوات المطالبة بتدخل دولي عاجل لضمان وصول المساعدات لمستحقيها بشفافية وعدالة. المنظمات الإنسانية والناشطون المحليون يؤكدون على ضرورة وجود آلية رقابة دولية صارمة لمنع استغلال المساعدات.
الدكتور سمير، طبيب في أحد المستشفيات الميدانية بإدلب، يلخص الوضع قائلاً: “نحن بحاجة ماسة إلى تدخل دولي فعال. حياة الملايين معلقة على خيط رفيع، والمجتمع الدولي مطالب بالتحرك السريع قبل وقوع كارثة إنسانية لا يمكن تداركها.”
إن الوضع في شمال غرب سوريا يمثل أزمة إنسانية متعددة الأبعاد، تتفاقم بسبب استغلال المساعدات الإنسانية. هذا الواقع المرير يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية أخلاقية وإنسانية كبيرة. فالحاجة ملحة لإيجاد آليات فعالة تضمن وصول المساعدات إلى مستحقيها بشفافية وعدالة، بعيداً عن أي استغلال.
كما أن هناك ضرورة ملحة لمعالجة الأسباب الجذرية للأزمة، بدءاً من السعي الجاد لحل سياسي شامل في سوريا، وصولاً إلى إعادة إعمار البنية التحتية المدمرة وخلق فرص اقتصادية تعيد الأمل للملايين. إن مصير ملايين السوريين في الشمال الغربي يعتمد على قدرة المجتمع الدولي على التحرك الفعال والسريع لوقف هذه المأساة الإنسانية المستمرة.
بلال الأحمد- إدلب