افتتحت المدارس في سوريا أبوابها أمام الطلبة، والآن يدرس الطلبة مناهج تعليمية مختلفة، أولها في مناطق سيطرة السلطة بدمشق وهو المنهاج العربي الذي يمجّد “حزب البعث” ويسعى لتشكيل جيل وفق الثقافة العروبية دون إيلاء أي اهتمام بلغات باقي المكونات، وفي شمال غرب البلاد، فرضت تركيا منهاجها ولغتها في التعليم في إطار تتريك المنطقة بينما فرضت ” هيئة تحرير الشام” منهاجها المؤدلج المتطرف.
أرقام صادمة
تقول الإحصاءات إنه كان في سوريا عام 2010، نحو 22200 مدرسة تغطي كامل البلاد، ولكن عددها تضاءل إلى نحو 14500 مدرسة عام 2023، وتقدر الإحصاءات أن عدد المدارس المتضررة يقدر بنحو 10 آلاف مدرسة، منها 5 آلاف مدرسة مدمرة بشكل كامل بفعل الحرب.
وفي الوقت الحالي، تؤكد إحصاءات أممية إن 2.4 مليون طفل سوري هم خارج المدرسة، نحو مليون منهم في مناطق شمال غرب سوريا الخاضعة لسيطرة تركيا وفصائلها في “الجيش الوطني” و”هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، لأسباب عديدة، منها المناهج المؤدلجة سياسياً وفق منظور تركيا والمؤدلجة إسلامياً وفق منظور “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، وأيضاً بسبب الفقر وعدم القدرة على تحمّل تكاليف التعليم وكذلك انعدام المدارس في العديد من مخيمات النزوح.
وبحسب الإحصاءات التي توردها بعض المنظمات، يتواجد في شمال غرب سوريا، 1834 مدرسة، منها 950 مدرسة في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً). أما بالنسبة للمخيمات في إدلب وريف حلب، فتقول التقديرات أن هناك 189 مخيم فقط يحتوي على مدارس من أصل 1270 مخيم في الشمال بدون أي مرافق تعليمية ومدارس.
سياسة تتريك ممنهجة
منذ أن احتلت تركيا أجزاء من الأراضي السورية، عام 2016، بدأت بتغيير المناهج الدراسية بعد أن عمدت إلى ربط النظام التعليمي في تلك المناطق بالمدارس والمؤسسات التعليمية التركية.
وفرضت تركيا شرطاً على تجديد عقود المدرّسين السوريين ألا وهو إجادتهم للغة التركية، لأنها صارت “مادة أساسية” في منهاج التعليم في مناطق سيطرتها.
اقرأ/ي أيضاً: المساعدات الإنسانية في إدلب بين الحاجة والاستغلال
وفي العام الدراسي التالي، تم إدخال اللغة التركية ضمن المنهاج الدراسي وبات الجميع ملزماً بدراستها في جميع المدارس بشمال غرب سوريا. وأصبحت اللغة التركية مادة أساسية تدخل في المعدل العام لجميع الصفوف وعلامتها الكاملة 100 والحد الأدنى للرسوب بها 50.
بالتوازي مع التعليم في المدارس، بدأت السلطات التركية بافتتاح فروع لمعهد “يونس إمرة” الثقافي التركي، في عدة مدن وخصوصاً مدينة عفرين، حيث تحاول تركيا إنشاء جيل كامل يتحدث اللغة التركية في مناطق سيطرتها، إذ أعلن هذا المعهد صراحة إنه يستهدف تعليم 300 ألف طفل سوري اللغة التركية ودمجهم مع الثقافة التركية.
كما عملت تركيا على افتتاح جامعات في شمال غرب سوريا وخصوصاً في الراعي وإعزاز وعفرين وربطتها بجامعاتها وخصوصاً بجامعتي إسطنبول وغازي عنتاب، ولكن غالبية من يرتادون هذه الجامعات هم من التركمان لأنه رغم كونهم أقلية إلا أنهم يتحدثون اللغة التركية، فضلاً عن أن النظام التركي يسهّل حصولهم على منح دراسية في الجامعات التركية.
وفي السياق، تقول الرئيسة المشتركة لهيئة التربية والتعليم في الإدارة الذاتية، سميرة حاج علي، إن “الاحتلال التركي قام بربط كافة المناطق المحتلة وبنيتها التحتية الخدمية والاقتصادية والتعليمية بمؤسساتها الرسمية، فاعتمدت من ناحية التربية والتعليم سياسة قائمة على تتريك التعليم انطلاقاً من ذهنيتها القائمة على الإمحاء لكافة الهويات ومحاربتها للتعددية الثقافية، وإعلاء شأن اللغة والثقافة التركية بغية صهر باقي الشعوب في بوتقتها”.
ولا تدّخر تركيا جهداً لتكريس الأمر الواقع من خلال تبني سياسات تتريك ممنهجة، الأمر الذي يعكس النوايا التركية في قضم تلك المناطق بشكل دائم.
واكتسبت سياسات التتريك طابعاً أكثر ضراوة في المناطق ذات الأغلبية الكردية في سوريا مثل عفرين ورأس العين/سرى كانيه وتل أبيض/كرى سبي، ما دفع بعشرات الآلاف من السكان الكرد إلى هجرة تلك المناطق، كما عملت تركيا على إزالة المعالم الكردية وتغيير الأسماء الكردية للشوارع والمراكز والأحياء واستبدالها بأخرى تركية.
ليس ذلك فحسب، بل عمدت القوات التركية لرفع العلم التركي وصور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فوق المدارس والمستشفيات، وكافة المراكز والمؤسسات والساحات بهدف إحداث تغييرات ديموغرافية جذرية هائلة لطمس الهوية الكردية لتلك المناطق واتخامها بنازحين سوريين، وخاصة من التركمان القادمين من المناطق السورية المنكوبة الأخرى، وفقاً لمراكز حقوقية.
وعانى العرب أيضاً من سياسة التتريك، ففي نهاية عام 2022، دعت منظمة “فرساي لتلاقي الثقافتين العربية والفرنسية” كلاً من جامعة الدول العربية والأمم المتحدة، ممثلة بالـ”يونسكو” وسائر المراكز والمؤسسات الثقافية المعنية باللغة العربية، إلى وضع حدّ لمشاريع التتريك المتواصلة التي تقوم بها أنقرة في شمال سوريا واعتبرت ما يجري احتلالاً بكل معنى الكلمة وحذرت من مساعي تتريك المنطقة واعتبرته انتهاكاً لمبادئ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو”.
منهاج مؤدلج يكرس التطرف
وفي إدلب الخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام” فالوضع مشابه من حيث أدلجة المناهج. وفي السياق، تقول الناطقة باسم لجنة المرأة في مجلس إدلب الخضراء، ميسون محمد: “إن مدارس إدلب الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام يسود فيها المنهاج الديني، أما بقية مناطق شمال غرب سوريا والخاضعة لسيطرة الاحتلال التركي، فالمناهج تكون وفق سياسة التتريك التي تتبعها تركيا”.
وأشارت أن “تحرير الشام” تفرض أشخاصاً تابعين لها تنظيمياً وفكرياً في إدارة قطاع التعليم، وأوضحته أنه في السنوات الأخيرة تم إنشاء ما تسمى “مدارس دار الوحي الشريف” التي تركز بشكل أساسي على العلوم الشرعية وفق ذهنيتها، وباتت تنتشر بشكل كثيف في إدلب.
ولفتت أن هذه المدارس تتلقى شتى أنواع الدعم عبر توفير الكتب والمدرسين ووسائط نقل الطلاب، ويتم جمع الأموال لها من التجار ويخصص لها جزء من عائدات “معبر باب الهوى” مع تركيا، أما المدارس الأخرى فتعاني من الإهمال، سواء لناحية توفير الكتب أو المدرسين أو المستلزمات الأخرى.
ولفتت محمد، أن “تحرير الشام” تفرض على طلاب مدارس “دار الوحي” لباساً موحداً للذكور، وهو عبارة عن “كلابية” تصل حتى الكاحل وبلون رمادي غامق وقبعة على الرأس، وبالنسبة للطالبات فهو عبارة عن “عباءة” تغطي الرأس حتى القدمين وهي بلون أسود أو رمادي.
وأوضحت أن المدارس منفصلة للجنسين في تلك المنطقة على مستوى الطلاب والطالبات وكذلك للمدرسين والمدرسات، مشيرةً أنه يفرض على المدرسين ارتداء لباس موحد وهو عبارة عن كلابية مع إطالة اللحية، أما المدرسات فهي عبارة عن عباءة طويلة مع تغطية الوجه والكفين.
وقالت ميسون محمد، إن ما يجري في إدلب هو إنشاء جيل كامل مؤدلج متطرف لا ينفّذ إلا ما يُؤمر به ليكون جاهزاً للتجنيد في صفوف “تحرير الشام”.
وضع يبعث على التفاؤل
وفي مناطق شمال وشرق سوريا، التي تتعايش فيها العديد من المكونات وتشكل نموذجاً مصغراً لسوريا، بدأ اعتباراً من مطلع عام 2014، وضع نظام تعليمي يعتمد على تعلم كل طالب التعليم بلغته الأم، وبذلك ولأول مرة في سوريا تم تدريس اللغة الكردية لأبناء المكون الكردي، فيما يتعلم العرب بلغتهم الأم وكذلك السريان وبقية المكونات، حيث ينصّ العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية على أن اللغات الكردية والعربية والسريانية، هي اللغات الأساسية في المنطقة، مع إمكانية تعلّم كل مكوّن آخر لغته الأم.
وفي العام الدراسي الجديد 2024/2025 استقبلت 4100 مدرسة في عموم شمال وشرق سوريا، نحو 900 ألف طالبة وطالب، بكادر تدريسي يبلغ قوامه 41 ألفاً، بحسب إحصائيات هيئة التربية والتعليم.
فيما لا تزال 87 مدرسة مدمرة بشكل كامل في المنطقة، و92 مدرسة مدمرة بشكل جزئي، في حين يجري ترميم 55 أخرى.
وتدرّس في مناطق شمال وشرق سوريا، مناهج الإدارة الذاتية، وكل مكون يدرس بلغته الأم الأساسية “العربية والكردية والسريانية”.
وتقول الرئيسة المشتركة لهيئة التربية والتعليم، سميرة حاج علي، إن الإدارة الذاتية تعتمد على سياسة إنعاش كافة اللغات والثقافات في شمال وشرق سوريا من خلال تدريس لغات متعددة كالعربية والكردية والسريانية والأرمنية في مدارسها وحفظت حق التعلّم والتعليم لكافة المكونات في الأنظمة والقوانين والوثائق الصادرة عن المؤسسات المعنية سواء التشريعية منها والتنفيذية.
اقرأ/ي أيضاً: تجارة الأنقاض.. كيف تحوّل السلطة دمار الحرب إلى مصدر ثروة
وأكدت أن هناك ما يميّز منهاج الإدارة الذاتية عن باقي المناطق، كتدريس مناهج باللغة الأم سواء باللغات الرسمية وغيرها، وأيضاً هناك مواد من حيث التسمية يمكن أن تكون مشتركة لكن هناك اختلاف من حيث المضمون كون ذهنية مشروع الإدارة الذاتية تختلف عن ذهنية باقي المناطق المبنية على رفض الآخر ورفض التعددية الثقافية والاعتراف بها، فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك مادة علم الاجتماع ومادة الجنولوجيا التي تتناول المرأة من حيث المضمون ومادة المجتمع والحياة وستضاف مواد أخرى في السنوات المقبلة.
وأشارت سميرة حاج علي، أن مستوى التربية والتعليم في شمال وشرق سوريا في كل عام دراسي يختلف عن سابقه فهو يخطو خطوات جادة نحو التطور، وقالت: “لو تتبعنا واقع التربية والتعليم منذ انطلاقة العملية التربوية سنلاحظ أن الخط البياني في تصاعد، وهناك خطوات نوعية حدثت سواء من حيث أعداد الطلاب الملتحقين بمدارس الإدارة الذاتية وعدد المدارس التي رممت وبنيت خلال هذه الأعوام، وعدد الطلبة الملتحقين بالتعليم الجامعي في تصاعد مستمر، والعمل الدؤوب على المناهج وتطويرها كلها مؤشرات على تطور الواقع التعليمي ومازال العمل جاري بهذا الخصوص.
وأوضحت أن متطلبات التربية واحتياجاتها كبيرة جداً، ولذلك فهي تتطلب مشاركة وتفاعل مجتمعي لإنجاح هذه العملية والانتقال إلى الشكل الأمثل الذي يسعون إليه.
الهجمات التركية تحرم الآلاف حق التعليم
ولكن الهجمات التركية المستمرة على مناطق شمال وشرق سوريا، باتت سبباً رئيسياً لحرمان آلاف الطلبة من تلقي العلم، وخصوصاً في مناطق الجبهة مثل تل تمر وزركان وعين عيسى ومنبج وعفرين والشهباء.
ففي ناحية تل تمر، استولت القوات التركية على 26 مدرسة وقامت بتدمير 20 أخرى في ريف الناحية نتيجة الهجمات عليها، وفي ناحية زركان استولت على 29 مدرسة ودمرت 4 مدارس أخرى.
وفي السياق، تقول سميرة حاج علي، إن التهديدات والهجمات لها أثر واضح وجلي على العملية التربوية، فالمناطق الحدودية تصبح خارج العملية التعليمية أثناء الهجمات مما يؤدي إلى حرمان أكثر من 100 ألف طالب من التعليم، فضلاً عن تعرّض المدارس للهجمات، وهذا بالمجمل يؤدي إلى عدم استقرار الواقع التعليمي.
الرقة / روزا عبود – تيم حسن