منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011، شهدت العاصمة دمشق سلسلة من التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة. ومع تدهور الوضع الاقتصادي وتراجع قيمة العملة المحلية، برزت أزمات متعددة أثّرت بشكل مباشر على حياة المواطنين اليومية. من بين هذه الأزمات، تبرز أزمة النقل كواحدة من أكثر التحديات إلحاحاً وتأثيراً على سكان العاصمة.
دمشق تئنّ تحت وطأة أزماتها المتلاحقة، وتبرز أزمة النقل كواحدة من أبرز التحديات التي تواجه سكان العاصمة السورية. فمنذ ما يقارب أربعة أشهر، يعاني المواطنون من صعوبات جمّة في التنقل داخل المدينة، مما يؤثر سلباً على حياتهم اليومية وأعمالهم ودراستهم. هذه الأزمة ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمات وسياسات متعددة أدت إلى تفاقم الوضع وصولاً إلى الحالة الراهنة.
شوارع مكتظة ووسائل نقل شحيحة
تشهد شوارع دمشق مشاهد يومية من الازدحام والفوضى، حيث يصطف المواطنون في طوابير طويلة أملاً في الحصول على وسيلة نقل. وتزداد المعاناة مع عزوف أصحاب وسائل النقل العامة عن العمل، نتيجة عدم قدرتهم على تعبئة مخصصاتهم من الوقود أو شرائه بالسعر الحر المرتفع. هذا الوضع يترك آلاف المواطنين عالقين في الشوارع لساعات طويلة، مما يؤثر على إنتاجيتهم وجودة حياتهم بشكل عام.
اقرأ/ي أيضاً: في ذكرى الهجمات.. كوباني أصبحت نقطة الانطلاق لهزيمة “داعش”
يقول أبو محمد، سائق (سرفيس) يعمل على خط مزة جبل كراجات: “قبل خمسة أشهر، كانت تحدث أزمة نقل نتيجة تأخير في التوريدات، لكن كانت تُحل خلال يومين أو ثلاثة. أما اليوم فالأمر مختلف، فهذه الأزمة قاربت على إكمال شهرها الرابع دون حلٍّ جذري”. ويضيف أبو محمد أن هذه الأزمة الممتدة قد أثّرت بشكل كبير على دخله وقدرته على إعالة أسرته، مما يعكس الأثر الاقتصادي العميق لهذه المشكلة على شريحة واسعة من المجتمع.
جذور الأزمة: بين الفساد والسيطرة الأمنية
تعود أسباب أزمة النقل في دمشق إلى عوامل متعددة، أبرزها قرار شركة “سادكوب” للمحروقات بإجبار السائقين على توطين بطاقاتهم، مما أدى إلى فوضى في تخصيص الطلبات وانتشار حالات الفساد والمحسوبيات في محطات الوقود المعتمدة. هذا القرار، الذي جاء في سياق محاولات الحكومة لتنظيم توزيع الوقود، أدى عملياً إلى نتائج عكسية، حيث زاد من تعقيد المشكلة بدلاً من حلها.
ويضيف أبو محمد: “الأمر الآخر والهام الذي دمّر حياة سائقي (السرافيس) والمواطنين على السواء، هو قيام الفرقة الرابعة بوضع يدها على كل محطات الوقود في العاصمة، لتبقى شركة سادكوب واجهة تنفيذية لأوامر الفرقة الرابعة”. هذا التدخل العسكري في إدارة موارد حيوية كالوقود يشير إلى تعقيدات إضافية في المشهد، حيث تتداخل المصالح العسكرية والأمنية مع الاحتياجات اليومية للمواطنين.
وجهٌ آخر للأزمة…مافيات الأمبيرات والسيطرة الأمنية
وفقاً لمصادر مطلعة، فإن أزمة النقل في دمشق ترتبط أيضاً بوجود مافيات الأمبيرات التابعة لفرع الأمن العسكري وشخصيات أمنية بارزة. هذه المافيات تسيطر على توزيع الكهرباء في ظل انقطاعها المتكرر، مما يخلق سوقاً موازية تؤثر بشكل مباشر على توافر الوقود وأسعاره. كما أن الفرقة الرابعة وعناصرها قد استحوذوا على محطات الوقود الحكومية في المدينة، بينما أُجبر أصحاب المحطات الخاصة على دفع مبالغ طائلة بشكل دوري، مما يزيد من تكلفة الوقود ويقلل من توافره للاستخدام العام.
اقرأ/ي أيضاً: ما بين التتريك والتطرف… أجيال سورية تتعرض للدمار
يؤكد كمال، مدير إحدى محطات تعبئة الوقود في دمشق، هذه المعلومات قائلاً: “أمام سطوة الفرقة الرابعة والأمن العسكري لا يمكن الاعتراض، ونكتفي بالصمت والقبول بهذا الواقع. لا يمكن تقديم شكوى لأي جهة، لأنه ببساطة تستطيع الفرقة الرابعة أو فرع الأمن العسكري في دمشق إغلاق المحطة تحت ذرائع متعددة”. هذا الوضع يخلق حالة من الخوف والصمت بين أصحاب المحطات والعاملين فيها، مما يعيق أي محاولة لإصلاح الوضع أو حتى الإبلاغ عن التجاوزات.
معاناة مستمرة وحلول غائبة
تستمر معاناة سكان دمشق يومياً مع أزمة النقل التي تُثقل كاهلهم وتؤثر على جميع جوانب حياتهم. فالموظفون وأصحاب المصالح وطلاب المدارس والجامعات يجدون صعوبة بالغة في الوصول إلى أماكن عملهم ودراستهم، خاصة مع بداية العام الدراسي. هذه الصعوبات لا تقتصر على هدر الوقت والجهد فحسب، بل تمتد لتشمل تأثيرات نفسية واجتماعية عميقة على المواطنين، الذين يشعرون بالإحباط والعجز أمام هذه الأزمة المستعصية.
وفي ظل غياب الحلول الجذرية من قِبل السلطات المعنية، يبقى المواطنون عالقين بين مطرقة الأزمة وسندان الصمت الرسمي. فالمطالبات المتكررة بإيجاد حلول بديلة تذهب أدراج الرياح، مما يؤكد على عجز السلطة عن حلّ هذه المشكلة اليومية التي تمسّ حياة الملايين. هذا العجز يزيد من حالة الاستياء العام ويعمق الفجوة بين المواطنين والسلطات، مما قد يؤدي إلى تداعيات اجتماعية وسياسية على المدى الطويل.
في النهاية، تبقى أزمة النقل في دمشق شاهداً حيّاً على تعقيدات الوضع في سوريا، حيث تتشابك العوامل الاقتصادية والأمنية والسياسية لتنتج واقعاً مريراً يعيشه المواطن السوري كل يوم. وفي ظل غياب الحلول الفعّالة والإرادة الحقيقية للتغيير، يبدو أن معاناة سكان دمشق ستستمر، منتظرين حلولاً قد لا تأتي في المدى المنظور. هذا الوضع يطرح تساؤلات جدّية حول مستقبل المدينة وقدرتها على الصمود أمام هذه التحديات المتراكمة، وحول إمكانية إيجاد مخرج من هذه الأزمة المعقّدة التي تمسّ صميم الحياة اليومية لملايين السوريين.
عمار المعتوق- دمشق