تتشابك خيوط الأزمة السورية بتعقيدات متزايدة، وتبرز على سطحها مسارات التطبيع مع السلطة في دمشق كظاهرة تستدعي التأمل والتحليل. هذه المسارات، بتفرّعاتها المتشعبة وتداخلاتها المعقدة، ترسم ملامح جديدة لمستقبل سوريا والمنطقة بأكملها. تتجلى أبعاد هذه المسارات، بأسبابها المتنوعة ونتائجها المحتملة، لتُلقي بثقلها على مسار الحل السياسي وتترك آثارها العميقة على شتى المناطق السورية، مع تركيز خاص على تلك الواقعة تحت النفوذ التركي.
نقف اليوم على أعتاب مرحلة فاصلة تمرّ بها المنطقة عموماً وسوريا على وجه الخصوص. تتأرجح الاحتمالات بين طيف واسع من السيناريوهات، بما فيها شبح حرب شاملة قد تعصف بكل التفاهمات والتسويات القائمة. وفي غمرة هذه التحولات الجيوسياسية، يرزح السكان في مناطق سيطرة السلطة تحت وطأة أوضاع إنسانية قاسية، تقترب من حافة المجاعة، مما قد يفرض تغييرات جوهرية في النسيج السياسي والاجتماعي السوري.
تتسارع وتيرة الأحداث في سوريا، وتتشابك المصالح الإقليمية والدولية بشكل غير مسبوق. وسط هذا المشهد المعقّد، تبرز مسارات التطبيع كمحاولة لإعادة رسم خارطة العلاقات في المنطقة. لكن هذه المحاولات تصطدم بواقع مرير على الأرض، حيث تتصارع الأجندات المتباينة وتتقاطع المصالح المتضاربة.
مسار التطبيع العربي
يتسم مسار التطبيع العربي مع السلطة في دمشق بحالة من التذبذب المستمر، يتأرجح بين لحظات من الزخم وفترات من الركود. هذا التأرجح ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج لتعقيدات المشهد السياسي الإقليمي والدولي.
اقرأ/ي أيضاً: أزمة النقل في دمشق.. معاناة يومية وحلول غائبة
يقدم الناشط السياسي، ن. ك. (54 عاماً) تحليلاً عميقاً لهذا الوضع، قائلاً: “الأسباب الموضوعية لتنشيط هذا المسار ليست متاحة بعد”. ويضيف موضحاً أن الدافع الرئيسي وراء مساعي دول الخليج لبناء جسور جديدة مع السلطة في دمشق “لم تكن مصالحها المباشرة مع السلطة ذاتها أو سوريا، بل هي إحدى الأعراض الجانبية لصراعها مع إيران، الحليف القوي للسلطة”.
وعند استشراف مستقبل هذا المسار، يرى ( ن. ك) أن حالة الجمود أو الفتور الملحوظة تعود لعاملين أساسيين: “أولهما هو رهان كل طرف على تحقيق مكاسب من الطرف الآخر مع مرور الوقت، والثاني هو العجز عن إحراز تقدم ملموس”. ويستطرد في تحليله قائلاً: “إيران تستشعر خطر التغلغل العربي في السلطة الضعيفة والعواقب المحتملة إذا ما وجدت السلطة مخرجاً لأزماتها الاقتصادية على حساب موقفها الإيديولوجي”.
من زاوية أخرى، يقدم المعارض السياسي، ع. ح. (65 عاماً) رؤية مغايرة، حيث يرى أن “الدور العربي في إعادة الإعمار يبدو أمراً حتمياً نظراً لقدرة دول الخليج على تنفيذ مشاريع استثمارية ضخمة، بل إن مصلحتها تكمن في استحداث فرص استثمارية جديدة” في بلد يزخر بالكفاءات البشرية “منخفضة التكلفة” ويتمتع بمقومات جغرافية ومناخية فريدة. ويقابل هذه الرغبة الخليجية، وفقاً لتحليل ( ع. ح)، “تطلع السلطة للخروج من أزماتها الاقتصادية الخانقة، على الرغم من عجزها الهيكلي عن جذب الاستثمارات، ناهيك عن أزمتها المالية المستفحلة وغرقها في الديون وإخفاقاتها المتكررة في إدارة الموارد”.
مسار التطبيع التركي
على الرغم من الهوّة الشاسعة والتباين الجلي بين السلطة في دمشق والنظام التركي، تواصل أنقرة بذل جهود حثيثة ومتواصلة لدفع عجلة التطبيع. وفي هذا السياق المعقّد، يبدو أن تجاوب السلطة في دمشق يأتي بوتيرة بطيئة ومترددة، استجابة للضغط الروسي المستمر لفتح قنوات التفاوض بين الطرفين.
يقدم المعارض السياسي وسجين الرأي السابق، (ن. ط) (73 عاماً) تحليلا لهذا المشهد، قائلاً: “يبدو أن النظام التركي والجانب الروسي قد توصلا إلى تفاهمات واتفاقيات تتعلق بهذه المفاوضات، يسعيان من خلالها لتحقيق أهداف متعددة لكلا الطرفين، مع تغييب واضح لمصالح السلطة في دمشق والشعب السوري على حد سواء، رغم التباين الواضح بين مصالح الشعب السوري والسلطة الحاكمة”. ويضيف ن. ط: “يمكن النظر إلى هذا المسار على أنه تمهيد للانسحاب الإيراني من سوريا، الأمر الذي من شأنه أن يخلق فراغاً استراتيجياً يثير قلق الجانب الروسي”.
تداعيات مسار التطبيع التركي
يصف المعارض ف.ج. (72 عاماً) النظام التركي بأنه “نظام ذو نزعة استعمارية يسعى بإصرار للحفاظ على حالة التخلف والانحدار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مناطق نفوذه وفي عموم سوريا”. ويحذّر بلهجة قاطعة من أن “تحقيق أي من الأجندات التركية على الأراضي السورية سيفضي حتماً إلى نتائج وخيمة على الشعب السوري”.
اقرأ/ي أيضاً: في ذكرى الهجمات.. كوباني أصبحت نقطة الانطلاق لهزيمة “داعش”
ويشير (ف.ج )، أن “الأهداف التركية تتجاوز مجرد إعادة اللاجئين واستغلال هذه الورقة في الحملات الانتخابية لأردوغان”. ويكشف عن استراتيجية أعمق، قائلاً إن النظام التركي “عمد إلى تعزيز التيارات الإسلامية المتطرفة وترسيخ وجودها في المناطق الخاضعة لنفوذه، بهدف إجهاض أي مبادرة وطنية أو ظهور قوى سياسية تؤمن بالحل السياسي والحوار الوطني الشامل”. ويختتم بعبارة موجزة لكنها عميقة الدلالة، واصفاً السياسة التركية بأنها “تروج للأوهام وتتاجر بتطلعات السوريين”.
سوريا والمستقبل المجهول.. تحديات الحل الوطني
تكشف قراءة متأنية لمسارات التطبيع مع السلطة في دمشق عن صعوبة بالغة في استشراف حلٍّ قريب للأزمة السورية. فالعامل الخارجي، بغض النظر عن هويته أو توجهاته، يبقى محكوماً بمصالحه الخاصة، حتى وإن تقاطعت عرضياً مع مصالح فئة من السكان في مرحلة ما.
الحقيقة الجلية هي أن مصالح القوى الخارجية لا يمكن أن تتماهى بشكل كامل ودائم مع تطلعات الشعب السوري في تقرير مصيره وامتلاك زمام أموره. هذا الهدف السامي يبدو بعيد المنال في ظل غياب حوار وطني شامل، قائم على احترام التنوع واحتضان الاختلاف بين أبناء الوطن الواحد.
إن مستقبل سوريا يبقى رهيناً بقدرة أبنائها على تجاوز الانقسامات، ونبذ التدخلات الخارجية، والتوصل إلى صيغة وطنية جامعة تحفظ كرامة الجميع وتضمن حقوقهم. فقط عندها يمكن الحديث عن بداية حقيقية لمسار الخروج من النفق المظلم الذي طال أمده، نحو فجر سوري جديد، يبنيه السوريون بأيديهم، لأنفسهم ولأجيالهم القادمة.
معن الجبلاوي- اللاذقية