منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011، شهدت البلاد تدهوراً حاداً في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. على مدى السنوات الماضية، تعاقبت الحكومات دون أن تتمكن من إحداث تغيير جوهري في حياة المواطنين. كل حكومة جديدة جاءت محمّلة بوعود الإصلاح والتحسين، لكن الواقع على الأرض ظل يزداد سوءاً. المواطن السوري، الذي كان يأمل في كل مرة بانفراجة قريبة، وجد نفسه يغرق أكثر في دوامةٍ من الأزمات المتلاحقة.
في هذا السياق المأزوم، يأتي تشكيل الحكومة الجديدة وسط حالة من الترقب الحذر والآمال الضئيلة لدى الشعب السوري. فرغم الوعود المتكررة بالإصلاح والتحسين، لم يلمس المواطنون أي تغيير إيجابي ملموس في حياتهم اليومية. على العكس، ازدادت معاناتهم مع مرور الوقت، وباتت الحياة الكريمة حلماً بعيد المنال للكثيرين.
نبض الشارع السوري
يتابع السوريون في مناطق سيطرة السلطة أخبار تشكيل الحكومة الجديدة باهتمام بالغ، مدفوعين بمزيج من الفضول والأمل الخافت. فرغم قتامة الواقع الاقتصادي والمعيشي الذي يعيشونه، لا يزال يحدو البعض أملٌ ضئيل في إمكانية تحسّن الأوضاع. يترقبون بحذر الأسماء التي ستتولى الحقائب الوزارية، خاصة تلك التي تمسُّ بشكل مباشر حياتهم المعيشية والاقتصادية.
لكن في أعماقهم، يدرك معظم السوريين أن أي حكومة جديدة لن تستطيع بمفردها إخراجهم من أزماتهم المتراكمة أو النهوض بواقعهم الاقتصادي المتردي. التجارب السابقة علّمتهم أن التغيير الحقيقي يتطلب أكثر من مجرد تبديل الوجوه في المناصب الحكومية. فالمشكلات التي يواجهونها عميقة وهيكلية، تحتاج إلى إصلاحات جذرية على مستويات متعددة.
الاقتصاد السوري على المحك
تواجه سوريا اليوم تحديات اقتصادية ومعيشية هائلة تفوق قدرة أي حكومة على حلها بشكل منفرد. الواقع السوري المعقد يحتاج إلى حل سياسي شامل ينظّم كافة الملفات الاقتصادية والمعيشية. ويرى كثيرٌ من المحللين أنه بدون إصلاحات سياسية حقيقية وجذرية، ستظل أزمات السوريين معقّدة وعصية على الحل.
اقرأ/ي أيضاً: سوريا والتطبيع.. مسارات متشابكة ومستقبل غامض
هذه التحديات متعددة الأوجه ومترابطة بشكل معقد. فهناك حاجة ملحّة لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة في العديد من المناطق، وهو أمر يتطلب استثمارات ضخمة وخطة طويلة المدى. كما أن إنعاش القطاعات الإنتاجية، التي تضررت بشدة خلال سنوات الصراع، يمثّل تحدياً آخر لا يقلّ أهمية. إضافة إلى ذلك، هناك مشكلة البطالة المتفاقمة، حيث يحتاج الملايين من السوريين إلى فرص عمل حقيقية تمكّنهم من كسب عيشهم بكرامة.
ولا يمكن إغفال قضية النازحين والمهجّرين، التي تمثل تحدياً إنسانياً واقتصادياً في آن واحد. فإعادة دمج هؤلاء في المجتمع وتوفير سُبل العيش الكريم لهم يتطلب جهوداً جبارة وموارد ضخمة.
قراءة في المشهد الاقتصادي
في حديث مع الباحث والخبير الاقتصادي عمار ي، يتضح حجم الأزمة التي يعيشها الاقتصاد السوري. يصف عمار حال السوريين اليوم بأنهم كالغريق الذي يتعلق بقشّة، في إشارة إلى حالة اليأس التي وصل إليها الكثيرون.
المشهد الاقتصادي، كما يراه الخبير، قاتم للغاية وتحكمه أزمات متعددة ومتفاقمة. فالمواطنون يعانون من انهيار غير مسبوق في قيمة الليرة السورية، مما أدى إلى ارتفاع جنوني في الأسعار وانخفاض حاد في القدرة الشرائية. الغلاء الفاحش أرهق كاهل الجميع، حيث باتت السلع الأساسية بعيدة عن متناول شريحة واسعة من المجتمع.
أزمة النقل الخانقة أضافت عبئاً إضافياً على كاهل المواطنين، حيث ارتفعت تكاليف التنقل بشكل كبير، مما أثّر سلباً على قدرة الناس على الوصول إلى أماكن عملهم أو قضاء حوائجهم اليومية. إضافة إلى ذلك، فإن ضعف الرواتب والأجور، التي لم تعد تكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية، جعل الحياة اليومية صراعاً مستمراً من أجل البقاء لكثير من العائلات السورية.
كما تضاف إلى هذه الصورة القاتمة أزمات الكهرباء والمياه المزمنة، والتي زادت من صعوبة الحياة اليومية وأثرت سلباً على مختلف جوانب الحياة، بما في ذلك التعليم والصحة والإنتاج.
شهادات حيّة من الشارع السوري
في محاولةٍ لاستطلاع آراء المواطنين، توجّهنا إلى أحد أسواق دمشق، حيث التقينا بعدد من السوريين الذين شاركونا تجاربهم وآراءهم حول الوضع الراهن وتوقعاتهم من الحكومة الجديدة.
كان اللافت للنظر أن معظم من تحدثنا إليهم قد فقدوا الثقة في إمكانية حدوث أي تغيير إيجابي في المستقبل القريب. هذا الشعور بفقدان الأمل يعكس حجم المعاناة التي يعيشها المواطن السوري، والتي تتجاوز مجرد الصعوبات الاقتصادية لتصل إلى حالة من الإحباط النفسي والاجتماعي العميق.
اقرأ/ي أيضاً: أزمة النقل في دمشق.. معاناة يومية وحلول غائبة
من بين من التقينا بهم، كان أبو سومر، رجل في الرابعة والستين من عمره يمتلك بسطة صغيرة في منطقة البرامكة. عندما سألناه عن رأيه في الحكومة الجديدة وتوقعاته منها، أجاب ضاحكاً بمرارة: “الحكومة السابقة والتي قبلها لم تحقق لنا أي شيء، بل على العكس، ازدادت أوضاعنا سوءاً. الليرة فقدت قيمتها، والضرائب والفواتير والأسعار ارتفعت بشكل جنوني. لم يبق في جيوبنا ما يسترنا. الحكومة الجديدة ستكمل مهام الحكومات السابقة في تجويعنا وزيادة عجزنا. النظام لا هم له سوى البقاء في السلطة.”
هذه الكلمات القاسية تلخّص مشاعر الكثيرين من السوريين الذين باتوا يرون في كل تغيير حكومي مجرد استمرار لنفس السياسات التي أوصلتهم إلى هذا الوضع المتردي. فقدان الثقة في المؤسسات الحكومية وصناع القرار بات سمة بارزة في المجتمع السوري، مما يشكل تحدياً إضافياً أمام أي محاولات للإصلاح في المستقبل.
هل من أمل في الأفق؟
في ضوء هذا الواقع المرير، يبدو جلياً أن الأزمة السورية أعمق وأكثر تعقيداً من أن تحلّها حكومة جديدة دون تغييرات جذرية في بنية النظام وآليات صنع القرار. يؤكد الباحثون والخبراء الاقتصاديون أن حياة الشعب السوري تتجه من سيئ إلى أسوأ في ظل استمرار النهج الحالي.
وفي غياب أي حلٍّ اقتصادي شامل ومستدام، يبدو أن أزمات السوريين ستستمر في التفاقم. السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل ستكون هناك إرادة حقيقية للتغيير في المستقبل القريب، أم سيستمر الوضع على ما هو عليه مع تزايد معاناة الشعب السوري؟
الإجابة على هذا السؤال ستحدد مصير ملايين السوريين الذين يتطلعون إلى مستقبل أفضل وسط واقع مرير يزداد صعوبة يوماً بعد يوم. فالحاجة ملحة لإصلاحات جذرية وشاملة تتجاوز مجرد تغيير الوجوه في المناصب الحكومية، لتصل إلى إعادة هيكلة الاقتصاد وبناء نظام حوكمة يضع مصلحة المواطن في صلب أولوياته.
عمار المعتوق-دمشق