في ظل استمرار سيطرة “هيئة تحرير الشام” على محافظة إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي شمال غربي سوريا، تتواصل الانتهاكات والممارسات القمعية ضد المدنيين والناشطين في المنطقة بوتيرة متصاعدة ومثيرة للقلق. وتشير التقارير الحقوقية والشهادات الميدانية إلى تفاقم حالة حقوق الإنسان، مع تصاعد وتيرة الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري، إضافة إلى تنفيذ أحكام الإعدام خارج إطار القضاء. هذه الممارسات تلقي بظلال قاتمة على مصير السكان المحليين، وتثير تساؤلات جادة حول مستقبل المنطقة في ظل هذه السيطرة المحكمة.
منذ بسط “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) نفوذها على محافظة إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي ، فرضت “الهيئة” سيطرتها الأمنية والعسكرية بقبضة من حديد على المنطقة. وعلى الرغم من المساعي الحثيثة لقائد “الهيئة” أبو محمد الجولاني لتقديم صورة أكثر اعتدالاً وقبولاً للمجتمع الدولي، إلا أن الممارسات على أرض الواقع تشير بوضوح إلى استمرار النهج القمعي والمتشدد. هذا التناقض الصارخ بين الخطاب العلني والسلوك الفعلي يعمّق الشكوك حول نوايا “الهيئة” الحقيقية وقدرتها على التحوّل نحو الاعتدال.
حملات اعتقال واسعة النطاق
شهدت الأشهر الأخيرة تصاعداً ملحوظاً ومقلقاً في حملات الاعتقال التي تنفذها “هيئة تحرير الشام” بحق المدنيين والناشطين. فقد وثّقت منظمات حقوقية اعتقال الشاب بلال محمد الحوراني في 17 أيلول/ سبتمبر الجاري في بلدة جسر الشغور بريف إدلب، على خلفية مشاركته في مظاهرة سلمية مناهضة للهيئة. هذه الحادثة ليست معزولة، إذ تبعها في اليوم التالي اعتقال محمود حسين الشيخ من بلدة قورقانيا أثناء مروره على إحدى نقاط التفتيش قرب مدينة سرمدا. هذه الاعتقالات تعكس نمطاً متكرراً من القمع الممنهج لأي صوت معارض أو منتقد لسياسات الهيئة.
وفي سياق متصل، نفذت “هيئة تحرير الشام” حملة اعتقالات واسعة النطاق ومنظمة مطلع شهر أيلول/ سبتمبر الجاري، طالت 41 شخصًا في عدة بلدات شمال غربي إدلب، بحثاً عما وصفتهم بـ”المخططين” لاحتجاجات ضدها. وما يثير القلق بشكل خاص هو شمول الحملة لاعتقال ثمانية موظفين في حكومة الإنقاذ التابعة للهيئة ذاتها، مما يشير إلى حالة من عدم الثقة والارتياب حتى داخل صفوف المؤسسات التي تديرها الهيئة.
اقرأ/ي أيضاً: الحكومة السورية الجديدة.. آمال ضائعة وواقع مرير
يقول أحمد (اسم مستعار)، وهو ناشط من مدينة إدلب: “لقد أضحت الاعتقالات التعسفية نسيجاً من الحياة اليومية في منطقتنا. إن مجرد إبداء رأي مخالف أو المشاركة في تظاهرة سلمية كفيل بأن يجد المرء نفسه خلف القضبان، محروماً من أبسط حقوقه في المحاكمة العادلة أو حتى معرفة التهم الموجهة إليه. نعيش في حالة من الخوف الدائم، حيث يمكن لأي شخص أن يختفي في أي لحظة دون أثر”.
قمع الاحتجاجات وملاحقة النساء
لم تقتصر حملات القمع والترهيب على الرجال فحسب، بل امتدت لتطال النساء أيضاً، في انتهاك صارخ لحقوق المرأة وكرامتها. ففي 10 أيلول/سبتمبر 2024، أقدمت هيئة “تحرير الشام” على اعتقال سبع نساء في مدينة إدلب وريفها، وذلك عقب مشاركتهن في مظاهرة نسائية سلمية مناهضة لسياسات الهيئة. هذه الاعتقالات التعسفية أثارت موجة من الغضب والاستنكار الشعبي، تجلت في خروج مظاهرة حاشدة وسط مدينة إدلب. بيد أن هذه المظاهرة قوبلت بدورها بالقمع والاعتقالات، في دورة مفرغة من العنف والترهيب.
تقول فاطمة وهي ناشطة من ريف إدلب: “لقد تلاشى الشعور بالأمان حتى داخل جدران منازلنا. إن مجرد التعبير عن رأينا أو المطالبة بأبسط حقوقنا الإنسانية بات يعرّضنا لخطر الاعتقال والتعذيب. نحن نعيش في سجن كبير مفتوح، حيث تُنتهك حرياتنا وكرامتنا يوميًا. إن صمت المجتمع الدولي عن هذه الانتهاكات يزيد من جرأة المعتدين ويعمق معاناتنا”.
إعدامات ميدانية وانتهاكات جسيمة
في تطور بالغ الخطورة، يكشف عن مدى استهانة “هيئة تحرير الشام” بحق الإنسان في الحياة وبأبسط قواعد العدالة، نفذت “الهيئة” عمليات إعدام ميدانية بحق ثلاثة سجناء في ساحة سجن إدلب المركزي القديم في 11 أيلول/سبتمبر 2024. وقد تم تنفيذ هذه الإعدامات رمياً بالرصاص، بتهمة العمالة لصالح التحالف الدولي، دون إجراء محاكمة عادلة أو توفير أدنى ضمانات الدفاع عن النفس. هذه الممارسات تشكل انتهاكاً صارخاً للقوانين الدولية وحقوق الإنسان، وترقى إلى مستوى جرائم الحرب.
اقرأ/ي أيضاً: سوريا والتطبيع.. مسارات متشابكة ومستقبل غامض
يقول محمد وهو محام من إدلب: “إن تنفيذ الإعدامات الميدانية دون محاكمات عادلة هو قمة الاستهتار بحياة البشر وبمبادئ العدالة. هذه الممارسات تعيدنا إلى عصور الظلام، وتقوّض أي أمل في بناء مجتمع يحترم حقوق الإنسان وسيادة القانون. إننا نواجه نظاماً قضائياً موازياً يفتقر إلى أبسط معايير العدالة والنزاهة”.
صراعات داخلية وتشدد متزايد
تشير التقارير الواردة من داخل مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) إلى وجود خلافات داخلية متصاعدة في صفوف “الهيئة”، خاصة بين العناصر الموالية لزعيمها أبو محمد الجولاني ومن يسعون للعودة إلى فكر أكثر تشدداً. هذا الانقسام الداخلي يعكس صراعاً أيديولوجياً عميقاً، حيث يطالب المتشددون بإعادة تفعيل دور “شرطة الآداب” وفرض “إشراف ديني” أكثر صرامة على المجتمع، متّهمين الجولاني بالابتعاد عن الفكر المتشدد للهيئة في محاولة لكسب قبول دولي.
يقول خالد، وهو من سكان ريف حلب الغربي: “نحن نشهد صراعاً خفياً ولكنه عنيف بين أجنحة “الهيئة” المختلفة. هناك من يسعى إلى درجة من الانفتاح النسبي بهدف الحصول على شرعية دولية، بينما يصرّ آخرون على العودة إلى النهج المتشدد والمتطرف. وفي خضم هذا الصراع الداخلي، نحن المدنيون من ندفع الثمن الباهظ. إن هذا الانقسام يزيد من حالة عدم الاستقرار ويجعل حياتنا اليومية رهينة لتقلبات موازين القوى داخل الهيئة”.
تبقى الأوضاع في شمال غربي سوريا مأساوية ومعقدة في ظل استمرار سيطرة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)وممارساتها القمعية. ومع تصاعد الانتهاكات وغياب المحاسبة الدولية الفعّالة، يبدو أن المدنيين في المنطقة سيظلون رهينة لصراعات القوى المسلحة وأجنداتها المختلفة، في انتظار حل سياسي شامل للأزمة السورية يضمن حقوقهم وكرامتهم.
بلال الأحمد- إدلب