بقلم: بشار عبود
واحدة من أهم محددات امتلاك ثقافة الديمقراطية تكمن في معرفة كيفية الاختلاف مع الآخر دون قطع الصلات معه. انطلاقاً من هذا التحديد الأساسي، يتبادر إلى الذهن أسئلة من ذات العجينة وهي: لماذا يفشل السوريون في التأسيس لحوار وطني جاد فيما بينهم، رغم وجود الكثير من القواسم المشتركة التي يمكنهم الاستناد عليها، وما هي المعوّقات التي تمنع التواصل البنّاء بين القوى الديمقراطية السورية رغم أنها تكاد تعيش المناخ السياسي ذاته والمعاناة نفسها؟
هل يمكن إحالة ذلك إلى عدم وجود بنية أساسية لممارسة ثقافة الديمقراطية داخل المجتمع السوري وأن هذه الثقافة غائبة من حيث العمق وظهورها لا يتعدى الشكل الذي لا يفضي إلى أي حوار جاد وفعّال؟
في محاولة لتسليط الضوء على واقع العلاقة والعمل بين أطراف المعارضة السورية، يمكن القول بأن معظم تشكيلات المعارضة السورية لا سيما تلك التي عملت في الشأن العام بعد عام 2011، لا تمتلك الحد الأدنى من ثقافة الديمقراطية. وليس أدلُّ على ذلك من نوعية الخطاب السائد الذي تتبادله أجسام المعارضة السورية سواء فيما بينها أو ما يتم التوجّه به نحو الجماهير العريضة.
كذلك، فإن معظم القوى السياسية السورية سعت لإثبات حضورها، إما عبر تقديم خطاب المظلومية التاريخية لمكوّن من مكونات الشعب السوري دون غيره، من حيث إظهار معاناته (تاريخياً أو حاضراً) وإظهار ما قدمه هذا المكوّن من تضحيات وبالتالي هو يستحق الحصة الأكبر دوناً عن غيره فيما لو سقط نظام الأسد، وإما عبر توجيه سهام أحكام مُسبقة بين القوى السياسية والتي هي أقرب إلى أحكام القيمة، حيث تستسهل كل قوة اتهام الآخرين بأن كل قوة لا تنسجم معها، فهي مجرّد قوّة انفصالية أو انعزالية أو تشكيل سياسي قائم على الشللية وبالتالي لا يمكن العمل مع تلك القوى تحت سقف “الديمقراطية” مهما كانت الظروف.
هذه القدرة على الجزم بتصنيف الآخر، تشير بالإصبع الغليظة إلى مسألتين في غاية الوضوح، أولها أن الطرف “الديمقراطي” الأول استسهل عملية التوصيف وكَيل التّهم تجاه الطرف “الديمقراطي” الثاني ونسف تجربته بالكامل، وبهذا هو أراح نفسه من عناء البحث عن قواسم مشتركة معه. وأيضاً تشير إلى عملية شرخ عميقة بين الأطراف السياسية السورية والتي يمكن الاستدلال عليها من خلال نظرية قائمة على الاستعلاء تجاه الآخرين. هذا الاستعلاء الذي لو أُتيحت له إمكانيات القوة والتسليح، فإنه لن يكون سوى مقدمة ضرورية لشيطنة هذا الطرف أو ذاك، وصولاً إلى إمكانية ممارسة العنف ضده فيما لو توفرت لديه الأسلحة والإمكانيات والظروف.
اقرأ/ي أيضاً: مؤتمر مختلف للديمقراطيين السوريين.. من أجل سوريا موحّدة حرة مستقلّة
هذا الشكل من العمل السياسي الذي خيّم على أوساط المعارضة السورية بعد عام 2011، يحيلنا إلى اعتراف لا بدّ منه، وهو أن مجتمعنا السوري مليء بالأزمات، وخصوصاً تلك الأنواع من الأزمات التي لا يرغب أحدنا أن يعترف بها. لذلك، فإنه من دون هذا الاعتراف العلني بوجود مشكلة في بنية العمل السياسي الديمقراطي السوري، فإننا لن نستطيع خلق أرضية حقيقية لممارسة النقاش والحوار، وهو على ما أعتقد، أساسي إذا ما أردنا التوصّل إلى امتلاك ثقافة الديمقراطية، كونها هي من سوف تدفعنا لخلق مناخ سياسي ديمقراطي جاد وفعّال يفضي إلى حلّ لهذا البلد وشعبه الذي يعاني منذ نحو عقد ونصف.
من نافل القول، بأن فشل إيجاد أرضية للحوار الديمقراطي بين مجاميع القوى السياسية السورية شكّل على الدوام ولا يزال يشكل تهديداً فاضحاً للنسيج الاجتماعي السوري، وقوّض ولا يزال يقوّض فرص التوصل إلى حلّ سياسي شامل ومستدام يمكن البناء عليه عبر صياغته بإرادة الشعب السوري دون غيره.
من هنا، تأتي أهمية مؤتمر المسار السوري الديمقراطي الذي سينعقد في بروكسل بتاريخ 25 تشرين الأول/أكتوبر الحالي، على أمل أن يشكل أرضية صلبة لهذا الحوار الوطني، بحيث يستند المؤتمرون إلى امتلاك رؤية واضحة واستراتيجية في العمل السياسي تؤدي إلى رسم خارطة طريق تُخرِج سوريا من أزمتها الحالية عبر تغليب المصلحة الوطنية العليا والبدء بعمل جماعي يحرر البلاد من جميع المحتلين ومن ثم يعمل على بناء سوريا ديمقراطية موحّدة تحترم التنوع القومي والديني وتضمن حقوق جميع المكونات دون تمييز أو إقصاء.
لا شك، بأن حجم التحديات التي تواجه السوريين حالياً أكبر بكثير مما كانت عليه من قبل، حيث يشهد الشرق الأوسط ككل مرحلة يمكن وصفها بالانتقالية نظرا إلى ما تشهده من متغيرات بدأت ملامحها تظهر بعد أحداث 7 أكتوبر 2023. لكن، وبالرغم من أنه لا يزال يكتنف هذه التحولات الكثير من الضبابية، إلا أنه بات من الواجب الوطني أن تبدأ القوى الديمقراطية السورية في الاستعداد لهذه التحديات المستقبلية عبر خلق طرف سوري قوي وموثوق ينتج عن مؤتمر المسار السوري الديمقراطي، بحيث يمكن التحاور مع هذا الطرف المأمول، ليس فقط على المستوى الوطني، بل على مستوى عموم المنطقة التي يتم رسم ملامحها الجديدة حالياً.
اقرأ/ي أيضاً: دير الزور.. معركة الاستقرار وتحدي بناء المستقبل في قلب سوريا
فالمؤتمر من وجهة نظري، يمكن النظر إليه باعتباره فرصة مفصلية ومهمة، لا سيما وأنه ينعقد في مرحلة حساسة وتاريخية من مراحل الأزمة السورية، ولا بد والحال هذه من التأكيد على أهمية مساهمة جميع المؤتمرين في خلق حوار بنّاء وعملي، يكون أساسه الوطنية السورية الكاملة، ويؤدي في نتائجه إلى خلق برنامج عمل واضح وجليّ يفضي نحو حلٍّ سياسي يلبي تطلعات الشعب السوري ويحافظ على وحدة البلاد وسيادتها وأيضاً يتم من خلاله إرسال رسالة قوية إلى الدول الإقليمية والعربية والدولية بأن السوريين أصبحوا مستعدين لتطبيق القرار الأممي رقم 2254.
هامش المناورة يضيق على الجميع، وخصوصاً على السوريين وبالتالي عليهم تحمل مسؤولية التأسيس لعمل جديد، وأن يؤكدوا للجميع أن تاريخ ما بعد 25 تشرين الأول/أكتوبر لن يكون كمن قبله من حيث الإنجاز الحقيقي القادر على حل الأزمة لا تأجيلها أو المماطلة بها، وأن تجميع قوى الديمقراطية السورية لم يعد نوعاً من الترف وإنما أصبح ضرورة قصوى بالنظر إلى مستقبل سوريا الجديدة، خصوصاً في ظل انعدام القدرة الفعّالة لسلطة دمشق الحالية عن إدارة أي ملف سواء داخل أراضي الجمهورية أو بين الدولة السورية وبقية الدول المجاورة لها.
الجهود التي بُذِلَت لإنجاح مؤتمر المسار الديمقراطي السوري كبيرة للغاية، ومن الخطأ أن تمضي كل هذه الجهود دون أن تثمر باتجاه رسم حلّ مقبول يرضي جميع المكونات السورية، لذلك نأمل في أن يتكئ السوريون هذه المرّة على النافذة التي سيفتحها المؤتمر من أجل فتح نوافذ أخرى محلية وإقليمية ودولية تساهم في إيجاد تغيير حقيقي للبلد والناس والمنطقة بأكملها.
هل نتفاءل ونقول بأن قاطرة الحل للأزمة السورية بدأت في السير على طريق واضح المعالم؟ هل يمكن أن نرفع سقف الأمل إلى درجة أن نقول بأن ثمة ولادة جديدة ستشهدها سوريا من مقر مؤتمر بروكسل في خريف 2024؟ هذا ما ستكشفه النتائج اللاحقة لمؤتمر مسار الديمقراطي، وهذا ما نرجوه.