يشهد المشهد السوري تعقيدات متزايدة نتيجة تداخل الأدوار الإقليمية والدولية في الأزمة. فقد تحول الصراع من قضية داخلية تسعى لإيجاد حلٍّ سياسي إلى ساحة لتصفية الحسابات بين القوى المختلفة. وفي خضم هذه التعقيدات، يبرز دور السوريين أنفسهم في التفاعل مع هذه المتغيرات والبحث عن مخرج من الأزمة.
إن تفاعل السوريين مع مجريات الإقليم لا يقتصر على متابعة التطورات فحسب، بل يتعداه إلى محاولة إسقاط ما يحدث إقليميا ودوليا على أزمتهم، واستشراف مسارات الحلول بما يتوافق مع تطلعاتهم. وهذا يؤكد حضور السوريين الفاعل في قضايا المنطقة، حيث تشكل آراؤهم المتنوعة أساسا لحلٍّ سياسي بات تطبيقه ضرورة ملحّة لتفادي المزيد من الأزمات.
في المقابل، تقف السلطة في دمشق عائقا أمام أي مسار سياسي، مما يزيد من تعقيد المشهد السوري. فتحالفاتها مع إيران وما يسمى “محور المقاومة” تعمّق الشرخ بين أبناء الشعب السوري. ويرى العديد من الأطياف والتيارات السورية، إضافة إلى الناشطين والمثقفين، أن خيارات السلطة تمثل عامل تأزيم للمجتمع السوري بكافة أطيافه.
ويكاد يجمع السوريون على أن توجهات السلطة وتفاعلاتها مع المستجدات الإقليمية خاطئة ولا تنبع من موقف وطني يراعي تطلعات الشعب. فمصادرة السلطة لرغبات السوريين تجاه الأزمات الإقليمية، من فلسطين إلى لبنان، لا تتماشى مع المساعي الدولية الرامية لإحداث تسوية شاملة في المنطقة. هذه التسوية التي ينبغي أن تكون بعيدة عن إيران وأذرعها التي لم تجلب للسوريين سوى المزيد من الأزمات.
ولا يعني هذا الموقف المطالبة بتبني خيارات القوى الإقليمية والدولية تجاه القضايا الأساسية، بل يؤكد على ضرورة إحداث تغيير سياسي في سوريا يفضي إلى بناء قاعدة سياسية واضحة تواكب التطورات وتعبر بصراحة عن تطلّعات السوريين بكافة أطيافهم. والأهم من ذلك، إشراكهم في آلية اتخاذ القرارات المصيرية.
إن واقع الحال يؤكد أن تفاعلات السوريين مع مختلف الملفات الإقليمية والدولية تنطلق بعيدا عن خيارات السلطة وتوجهاتها نحو القوى التي تعرقل الحل السياسي في سوريا. فالسوريون يدركون وجود أطماع جديدة لبعض الأطراف كتركيا، التي تروج صراحة لمشروع تقسيم سوريا. كما أن عجز السلطة عن فرض سيطرتها على كامل الأراضي السورية أدى إلى ظهور الجماعات المسلحة الجهادية وأمراء الحرب، الذين فرضوا أمرا واقعا في مناطق سيطرتهم. ومع الدعم التركي لهم، بات واضحا أن تلك الجماعات تسعى إلى الانفصال عن سوريا ، مما يجعل الدور التركي في نظر غالبية السوريين عاملا مؤديا إلى تقسيم البلاد.
يدرك السوريون أن الحالة السورية، التي انصهرت فيها القوى الإقليمية والدولية، قد اتخذت من سوريا ساحة لتصفية الحسابات. غير أن هذه الحسابات لا ترتبط بالضرورة بالأزمة السورية، لكن تداعياتها وتأثيرها السلبي على تطورات الوضع السوري كان له الأثر العميق في تأخير الحل السياسي. فالمصالح المتضاربة والمتعارضة بين هذه القوى خارج الإقليم السوري انتقلت إلى داخله لتغذي عوامل الصراع الداخلي الممتد في سياق جيوسياسي معقد.
فالموقف الإسرائيلي، على سبيل المثال، يجد في تفسيره استهداف إيران وعرقلة عودة واشنطن للاتفاق النووي. أما الموقف التركي الممتد إلى ليبيا، فله علاقة وثيقة بقضايا شرق المتوسط الغازية والبترولية والأطماع التركية فيها. وإيران تستثمر تواجدها في سوريا وتعتبره أحد العناصر الضاغطة في خلافاتها مع المملكة العربية السعودية في اليمن. هذه العلاقات المتشابكة تعرقل جهود التسوية للأزمة السورية في ظل تنامي العوامل الخارجية المغذّية لها.
وبهذا المعنى، فقد التقى تضارب المصالح الإقليمية والدولية مع البعد الداخلي للأزمة السورية. يضاف إلى ذلك موقف السلطة في دمشق التي تبنت خيارات سياسية خاطئة لا تتناسب ولا تلبي طموحات السوريين. الأمر الذي أدى إلى اتساع مشاركة الأطراف الإقليمية والدولية في تحديد مسار الأزمة السورية، وانتهى بسيطرتها على القرار السوري، وبتحييد أي مسار سياسي حقيقي هدفه الأساسي بناء أسس الحل السياسي وفق القرار الأممي 2254.
إن ما سبق يُعد سببا رئيسيا في تعقيد المشهد السوري. من هنا فإن تفاعلات السوريين مع مجريات الإقليم تشكل ركيزة أساسية للوصول إلى مشهد سياسي يتناسب مع ما يريده السوريون. والأهم أن السلطة التي ترفض أي حل وترفض الحوار وتعيش في عزلة بعيدة عن الشعب السوري، لم تمنع هذا الشعب من تكوين آراء واضحة حيال قضايا الإقليم. فقد بات واضحا في نهجه أن بقاء السلطة وما تتبناه من خيارات يجعل من الساحة السورية ميدانا لتصفية حسابات الأطراف الإقليمية والدولية حيال قضايا خارجية تعطل وصول السوريين إلى الحل السياسي. والأهم أن حسابات تلك الأطراف لا تعني السوريين إطلاقا طالما أنها لا تعمل في إطار البحث عن تسوية سياسية تفضي إلى رحيل السلطة.
يمكن القول إن الأدوار الإقليمية والدولية في سوريا لم تكن عوامل مساعدة للسوريين. فمن روسيا إلى إيران وتركيا وضمنا السلطة، كلهم يناورون ضمن إطار مصالحهم. أما السوريون، ورغم أزماتهم العميقة، فإنهم حاضرون تأثيرا وتفاعلا في جُلّ ما يشهده الإقليم. والأهم أن رؤاهم السياسية واضحة لا لبس فيها. فمن يراقب تعليقات السوريين في وسائل التواصل الاجتماعي، يدرك مباشرة أن آراء السوريين تبتعد جملة وتفصيلا عن سياسات السلطة حيال ما يحدث في لبنان وفلسطين. فالسوريون ينظرون إلى تلك الملفات من منظور وطني بحت، ويتعاطفون مع اللبنانيين والفلسطينيين من زاوية أنهم ضحايا السياسات، وبأن ما حدث ويحدث معهم عاشه السوريون خلال أربعة عشر عاما جراء سياسات إيران وروسيا وتركيا، ورغباتهم في تحويل سوريا إلى منطقة لنفوذهم، كما يحدث الآن في لبنان وفلسطين.
وعموما، فإن الشعب السوري، رغم ما يعانيه، أثبت أنه شعب حي يتناول القضايا الإقليمية بكثير من المنطق والعقلانية، ويطالب بوضع آليات للعمل على تسريع الحلول في المنطقة بما في ذلك الحل السوري. وشعب كهذا يحق له تقرير مصيره في مستقبل سوريا، والذي يجب أن يكون مستقبلا يقوم على الديمقراطية والحرية والتعددية السياسية. ويبقى القول إن الشعب السوري قادر على خلق مناخ سياسي إيجابي مع تحييد أي خلاف يرتبط بمصالح القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الملف السوري. كما أن هذا الشعب قادر على تخطي خلافاته ووضعها على طاولة الحوار. ولابد في هذا الإطار من تفعيل برامج الحوار السوري السوري، لكن ما يعطل كل ذلك هو السلطة وحلفاؤها، ولابد من رحيلها حتى يتحقق للسوريين ما يحلمون به. لكن حتى هذا الوقت فإن السوريين، وعلى اختلاف توجهاتهم، تصبّ آراؤهم ورغباتهم في إطار بناء سوريا ديمقراطية تعددية تؤمن بالتغيير السّلمي بعيدا عن السلطة وحساباتها غير المنطقية.
عمار المعتوق- دمشق