يواجه النازحون في الشمال السوري مأساة إنسانية متعددة الأبعاد مع اقتراب فصل الشتاء وموجة البرد القارس. فبين مطرقة ارتفاع أسعار مواد التدفئة وسندان تهديدات الإخلاء من المخيمات، يجد أكثر من 800 ألف نازح أنفسهم في صراع يومي للبقاء على قيد الحياة. وتزداد المعاناة حدّة مع تضافر عوامل عدة، من بينها الأزمة الاقتصادية، وضعف التمويل الدولي للمساعدات الإنسانية، والظروف المناخية القاسية التي تضرب المنطقة.
في مشهد يتكرر كل عام مع حلول موسم البرد، تتحول المخيمات العشوائية المنتشرة في ريفي إدلب وحلب إلى ما يشبه المصيدة المميتة لقاطنيها. فالخيام المتهالكة، التي تفتقر لأبسط مقومات الحماية من عوامل الطقس، تتحول إلى ثلاجات بشرية تهدد حياة الأطفال والمسنّين بشكل خاص. وفي ظل غياب الحلول المستدامة وقصور المساعدات الدولية، يجد النازحون أنفسهم أمام خيارات قاسية بين تأمين الغذاء الأساسي أو شراء مواد التدفئة الضرورية للبقاء على قيد الحياة.
سباق مع الأسعار المتصاعدة
تكشف جولة في أسواق الشمال السوري عن ارتفاع غير مسبوق في أسعار مواد التدفئة الأساسية. وتظهر الأرقام المسجلة قفزات كبيرة في الأسعار، حيث وصل سعر طن قشر الفستق إلى 140 دولاراً أمريكياً، بينما تجاوز سعر طن قشر البندق 145 دولاراً. وفي الوقت نفسه، يتأرجح سعر طن الحطب بين 120 و170 دولاراً، متأثراً بنوعية الخشب ودرجة جفافه. أما الفحم الحجري، فقد سجل قفزة كبيرة ليصل سعر الطن إلى 225 دولاراً.
ويضيف هذا الارتفاع في الأسعار عبئاً ثقيلاً على كاهل العائلات التي تكافح لتأمين احتياجاتها الأساسية. يقول أبو خالد، من سكان ريف إدلب: “لم تعد المسألة مجرد تحدٍّ موسمي، بل تحولت إلى معركة يومية للبقاء. نجد أنفسنا مضطرين للمفاضلة بين شراء الطعام أو مواد التدفئة، وكلاهما ضروري للحياة.”
المخيمات: قصص معاناة لا تنتهي
في مخيمات النازحين، تتجلى المأساة بصورة أكثر وضوحاً. فالخيام المتهالكة لا توفر حماية كافية من البرد القارس، مما يضطر قاطنيها إلى استهلاك كميات أكبر من مواد التدفئة. وفي مخيم عجاج بمنطقة كللي، تواجه خمسون عائلة شبح التشرد مع قرب انتهاء عقد إيجار الأرض المقام عليها المخيم.
اقرأ/ي أيضاً: حراك السويداء يُربك حسابات السلطة في دمشق وسط تحولات إقليمية متسارعة
يشرح أبو عمار، أحد قاطني مخيم في كفر لوسين: “نحتاج إلى كميات مضاعفة من مواد التدفئة مقارنة بالمنازل العادية. البرد يتسلل من كل جانب في الخيمة، والرطوبة تزيد الأمر سوءاً. نحاول سد الثغرات بما نستطيع، لكن الأمر يتجاوز قدرتنا المادية.”
صراع البقاء وتحدي الإيجارات
تتعقد أزمة النازحين مع تصاعد الضغوط من أصحاب الأراضي الخاصة التي أقيمت عليها المخيمات. ففي مناطق متعددة من ريفي إدلب وحلب، يواجه النازحون تهديدات متكررة بالإخلاء أو زيادات كبيرة في الإيجارات. وتشير التقديرات إلى وجود أكثر من 800 مخيم عشوائي في المنطقة، معظمها مقام على أراضٍ خاصة.
تروي أم حسن، وهي ربة منزل من ريف حلب، تفاصيل المعاناة اليومية: “تحتاج العائلة الواحدة إلى ما يقارب 300 دولار لتأمين التدفئة خلال موسم البرد، وهذا المبلغ يتجاوز قدرة معظم العائلات. نجد أنفسنا في موقف لا نحسد عليه، إما المخاطرة بصحة أطفالنا في البرد القارس، أو الاستدانة لشراء مواد التدفئة.”
غياب الحلول وقصور المساعدات
رغم إعلان حزم مساعدات دولية جديدة، تظل الاستجابة الإنسانية قاصرة عن تلبية الاحتياجات المتزايدة. فالتمويل الدولي لم يتجاوز ربع المتطلبات الإجمالية، مما يترك فجوة كبيرة في توفير المساعدات الأساسية. وتتفاقم المشكلة مع التوترات الإقليمية التي تعيق وصول المساعدات.
يقول خالد الياسين من مخيم الحسين: “كل عام نواجه نفس المعاناة المتجددة. نعتمد على المساعدات، لكنها لا تكفي. وحتى عندما تصل المساعدات، فإنها لا تغطي سوى جزء بسيط من احتياجاتنا الأساسية.”
اقرأ/ي أيضاً: السوريون وتفاعلهم مع الأدوار الإقليمية والدولية.. رؤى نحو حلٍّ سياسي
مستقبل مجهول وتحديات متراكمة
تزداد المخاوف مع اقتراب موجة البرد القارس، خاصة مع تكرار تجارب السنوات السابقة حيث تضررت مئات المخيمات من العواصف والفيضانات. وتشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 85% من المخيمات تفتقر إلى الموارد الأساسية، في حين تتعقد أزمة المساعدات الإنسانية بسبب التوترات الإقليمية المتصاعدة.
يبدو المشهد في الشمال السوري أكثر قتامة مع كل يوم يمرّ، حيث تتضافر عوامل ارتفاع الأسعار وأزمة الإيجارات ونقص المساعدات لتشكل واقعاً مريراً يواجهه مئات آلاف النازحين. وفي ظل هذه الظروف، تبقى الحاجة مُلحّة لاستجابة دولية أكثر فاعلية وحلول مستدامة لمعالجة هذه الأزمة الإنسانية المتفاقمة، قبل أن تتحول إلى كارثة إنسانية شاملة.
بلال الأحمد-إدلب