يهربون دون وجهة محددة، تلاحقهم سنوات الحرب في سوريا وآثارها التدميرية، لا يعرفون أي أرض ستضم جراحهم. تلاحقهم سلطة لا همّ لها سوى التنكيل بهم، وإن عادوا طواعية فإن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة تقبض عليهم، لا لشيء سوى لأنهم يرفضون وجود سلطة غارقة في دمائهم، ليبقوا هائمين في مشارق الأرض ومغاربها. هذا هو حال اللاجئ السوري الذي هرب جراء حرب شنّتها السلطة عليه، حتى بات واقعه غاية في الصعوبة. فالسلطة من جهتها توظف معاناة السوريين في سياساتها للقول بأنها لا تمانع عودة المدنيين إلى بلادهم، ومن جهة أخرى فإن المجتمع الدولي عاجز عن حماية اللاجئ السوري الذي يعود إلى بلده. وبين هذا وذاك، هناك معاناة إنسانية تتجسد في واقع السوريين الذين باتوا عاجزين عن العودة إلى مدنهم وقراهم نتيجة الملاحقات الأمنية وسياسات الأجهزة الأمنية، كل ذلك وسط تجاهل أممي لمعاناتهم.
في غمرة الحرب التي يشهدها لبنان، اضطر كثير من السوريين للعودة إلى بلدهم. وبخلاف تصريحات السلطة حيال تأمين عودة آمنة، فإن الواقع الذي واجهه كثير من العائدين من لبنان يدحض روايات السلطة ومزاعمها حول استقبال اللاجئين عند المعابر الحدودية مع لبنان، وتأمين مساكن مؤقتة لهم وتجهيزها بكل مقومات الحياة الكريمة. لكن هذا الواقع قد ينطبق إلى حدٍّ ما على الذين وصلوا فعلاً إلى مراكز الإيواء، أما من لم يستطع الوصول فقد تمت استضافته في سجون الفرقة الرابعة.
أتاوات تطال السوريين على حواجز الفرقة الرابعة
مع بداية حركة النزوح من لبنان إلى سوريا، قامت السلطة بإسقاط شرط تصريف الـ 100 دولار عند الحدود السورية حتى يتمكن السوري من الدخول إلى بلاده. لكن هذا القرار الذي أثار سخرية السوريين لم يكن سوى تمهيداً لقيام حواجز الفرقة الرابعة المنتشرة على طول الطرق من الحدود وحتى الداخل السوري بفرض أتاوات على كل العابرين. فقد فرضت الحواجز التابعة للفرقة الرابعة والمنتشرة على طريق بيروت دمشق أتاوات على السوريين العائدين من لبنان.
اقرأ/ي أيضاً: مخيمات النازحين في الشمال السوري.. معاناة متجددة مع موجة البرد القادمة
استفادت الفرقة الرابعة كثيراً من حالة النزوح العكسي من لبنان نحو سوريا، وبحسب عائدين تمكنوا من الوصول إلى دمشق، فإن مجموع المبالغ التي تم دفعها لحواجز الرابعة من بيروت إلى دمشق تخطت في بعض الأحيان 380 دولاراً أمريكياً. الأمر الذي دفع بالبعض للقول إن شبكات التهريب بين لبنان وسوريا باتت أرحم من تسلّط الرابعة، حيث تتراوح تكاليف العودة إلى سوريا عبر تلك الشبكات ما يقارب 200 دولار.
حالة النزوح العكسي من لبنان إلى سوريا لا تزال مستمرة، ورغم أن السلطة أسقطت شرط تصريف الـ 100 دولار عند الحدود، إلا أن حواجز الفرقة الرابعة أصدرت ما أسمته “رسوم العبور”. هذا المصطلح الذي بات شائعاً لدى السوريين يتم من خلاله فرض أتاوة على كل سوري عائد وعلى كل سيارة خاصة أو حافلة، الأمر الذي يُعد أحد أهم أنماط الاستغلال الاقتصادي في سوريا. واللافت أن كل ما يتم تحصيله من السوريين العائدين يذهب إلى خزائن الفرقة الرابعة التي غصت بأموال السوريين وممتلكاتهم، فضلاً عن أن حواجز الرابعة تقوم بإلقاء القبض على كل من يمتنع عن تسديد رسوم العبور وزجّه في سجونها الخاصة. أما الذين انتفضوا في وجه السلطة في بداية الأزمة واضطروا اليوم للعودة جراء الواقع في لبنان، فإن لهؤلاء وضعاً خاصاً، حيث يتم إخفاؤهم وفي مرات كثيرة يتم قتلهم تحت ذرائع متعددة.
حواجز الرابعة واقع لا يعرفه إلا السوريون
يقول وليد س. (57 عاماً)، وهو من إحدى قرى ريف حماة الشمالي ونازح بقي في لبنان قرابة 6 سنوات، إن الأحداث في لبنان أجبرته وعائلته على العودة إلى سوريا. ويؤكد أنه بعد عبوره نقطة المصنع جديدة يابوس الحدودية، اضطر إلى دفع 180 دولاراً لأحد حواجز الرابعة. ورغم أنه كان عائداً مع مجموعة من السوريين الذين أقلتهم حافلة من الحدود السورية اللبنانية، إلا أن كل عائلة دفعت مبالغ بالدولار لحواجز الرابعة.
يؤكد وليد س. أن الأمر لم ينته بدفع هذا المبلغ، فالحواجز المنتشرة على طول الطريق المؤدي إلى محافظة حماة، والتي يتبع معظمها للفرقة الرابعة، تطلب أيضاً رسوم العبور لكن بالليرة السورية. فقد دفع عن نفسه وعائلته 250 ألف ليرة سورية حتى وصولهم إلى مدينة حماة، وكانوا يقفون عند كل حاجز وقتاً طويلاً ريثما يتم تفييش أسمائهم.
يخبرنا وليد س. بمشاهداته قائلاً: “عند أحد حواجز الفرقة الرابعة بعد جسر مصفاة حمص وباتجاه حماة، قام الحاجز بإلقاء القبض على أكثر من شاب بحجة أنهم مطلوبون وفارون من الخدمة الإلزامية، ورغم قيام هؤلاء بإبراز ما يُثبت تأدية الخدمة الإلزامية إلا أن ذلك لم يمنع حاجز الرابعة من إنزالهم من الحافلة بطريقة مُهينة، وهنا لا أحد يستطيع التدخل أو طلب توضيح الوضع، فالكل مُهدد بالاعتقال أو الإخفاء القسري.”
روايات يندى لها الجبين
روايات السوريين العائدين من لبنان لا تقتصر على دفع مبالغ طائلة لحواجز الفرقة الرابعة فحسب، بل ثمة مشاهدات أعادت الكثيرين إلى مشاهد التنكيل بالسوريين وإخفائهم وقتلهم. تخبرنا نجاة و. (37 عاماً)، وهي كانت تعمل في بيروت لدى إحدى شركات الصرافة، أن القصف على بيروت أجبرها على العودة إلى سوريا ريثما يعود الهدوء إلى لبنان.
اقرأ/ي أيضاً: في درعا مشهد أمني معقد ضمن متاهات السلطة
تقول نجاة: “بعد ليلة من القصف العنيف وجراء الضغوط التي تعرضت لها من قبل عائلتي، قمت برفقة ثلاث فتيات وشاب سوري باستئجار سيارة خاصة للعودة إلى سوريا. من بيروت وحتى نقطة المصنع كان كل شيء يسير بسهولة، لكن عندما دخلنا الأراضي السورية بدأت المعاناة.”
تضيف نجاة: “بعد أن تجاوزنا نقطة المصنع الحدودية وتوجّهنا إلى مدينة حمص أوقفنا حاجز أمني تابع لمكتب الأمن في الرابعة، وبعد ما يقارب الساعة ونصف من الوقوف في طابور الانتظار، وصلنا إلى الحاجز حيث كان يقف ثلاثة عناصر. حينها أخذوا الهويات وقام أحد العناصر بالذهاب إلى غرفة مجاورة للتفييش. وفي هذه الأثناء طلب منا أحد العناصر “حلوان العودة بسلام إلى حضن الوطن”، وقمت أنا والفتيات الثلاث بإخراج النقود السورية ليقول لنا “لا لا دولار دولار”، حينها أخرجنا 50 دولاراً وأخذها منا وهو يضحك. أما الشاب، والذي ينحدر من مدينة الرستن، فقد أعطى العنصر 100 دولار. حينها عاد العنصر الذي أخذ الهويات شاهراً سلاحه وهو يقول: ‘ابن الرستن انزل’، وتغير وجه الشاب.”
وتتابع: “هجم عناصر الحاجز على الشاب وبدؤوا بضربه في مشهد يعرفه كل السوريين. حتى أن سائق التكسي حاول التدخل لفهم الأمر لكن أحد العناصر قال له: ‘ابق في السيارة وإلا الدبان الأزرق لن يعرف مكانك’. وقاموا بأخذ الشاب وأغراضه والدماء تسيل من وجهه، قائلين ‘معارض من الرستن وأجى برجليه لعنا’.”
صحيح أن السلطة تتشدق بتقديم كل ما يلزم لعودة آمنة للسوريين في رسالة موجّهة للمجتمع الدولي، إلا أن السلطة وقواها الأمنية والفرقة الرابعة يقومون بالتنكيل بالسوريين العائدين من لبنان. ومن سَلِم من القصف على لبنان لم يسلم من حواجز الرابعة التي نكلت بالسوريين وقامت بإذلالهم، ليكون السوريون أمام هذا الواقع في ظل مأساة لم ولن تنتهي في ظل وجود هذه السلطة وأذرعها الأمنية التي لا همّ لها سوى إذلال السوريين بشتى الوسائل.
سحر الحمصي- حمص