شكّل الساحل السوري على مدى عقود مركزاً اقتصادياً وسياحياً حيوياً في سوريا، حيث تميزت المنطقة بموقعها الاستراتيجي على البحر المتوسط وطبيعتها الخلابة التي جذبت السياح من مختلف أنحاء العالم. كانت المنطقة تعجّ بالحركة التجارية والسياحية، وتشكّل مصدر دخل رئيسي للاقتصاد السوري. غير أن السنوات الأخيرة شهدت تحولاً دراماتيكياً في واقع المنطقة، حيث تحول هذا المعقل الاقتصادي المزدهر إلى منطقة تئنّ تحت وطأة أزمات معيشية متعددة تهدد النسيج الاجتماعي بأكمله.
منذ سبعينيات القرن الماضي، برز الساحل السوري كمركز سياحي واقتصادي مهم، حيث شهدت المنطقة نهضة عمرانية وتنموية واسعة. وكانت مدينة اللاذقية، عاصمة الساحل السوري، تضم أحد أهم الموانئ في شرق المتوسط، مما جعلها مركزاً تجارياً حيوياً. اشتهرت المنطقة بإنتاج الحمضيات والزيتون، وكانت تصدّر منتجاتها إلى مختلف دول العالم، كما تميزت بصناعاتها الغذائية المتنوعة وحرفها اليدوية التقليدية التي شكلت مصدر رزق لآلاف العائلات.
يشهد الساحل السوري اليوم تدهوراً غير مسبوق في الأوضاع المعيشية للسكان. وتتجلى هذه المعاناة في مختلف مناحي الحياة، من ارتفاع جنوني في الأسعار إلى انقطاع شبه دائم للخدمات الأساسية، مروراً بأزمة محروقات خانقة وانهيار في القدرة الشرائية للمواطنين. أصبحت المتاجر شبه خالية من الزبائن، وتحولت الأسواق التي كانت تعجّ بالحركة إلى ساحات خاوية إلا من المتسوقين الباحثين عن الضروريات الأساسية.
شهادات من قلب المعاناة
في مدينة اللاذقية، يروي أبو محمد، الموظف في إحدى المؤسسات الحكومية، تفاصيل معاناته اليومية: “الحياة أصبحت لا تطاق. أعمل في الوظيفة الحكومية منذ ثلاثين عاماً، وللمرة الأولى أجد نفسي عاجزاً عن تأمين احتياجات أسرتي الأساسية. دخلي الشهري بالكاد يكفي لشراء الخبز والخضار لأسبوع واحد. لولا مساعدات أبنائي المغتربين لما استطعنا الاستمرار. حتى العلاج أصبح من الكماليات، فعندما مرضتْ زوجتي الشهر الماضي، اضطررت للاستدانة لتأمين ثمن الأدوية. نعيش في ظل أزمة صحية خانقة، حيث أصبحت تكلفة العلاج تتجاوز قدرة المواطن العادي.”
وفي مدينة جبلة، يقدم رامي صورة قاتمة عن أزمة المواصلات: “تكلفة التنقل اليومية أصبحت عبئاً ثقيلاً. أسعار المحروقات ارتفعت بشكل جنوني، وحتى وسائل النقل العام أصبحت مكلفة جداً. معظم سكان المدينة يفضلون المشي لمسافات طويلة توفيراً للمصاريف. الوضع مأساوي، وما يزيد الطين بلّة أن فرص العمل شبه معدومة. كنت أعمل في قطاع السياحة، لكن مع تراجع الحركة السياحية بشكل شبه كامل، أصبحتُ عاطلاً عن العمل مثل كثيرين غيري.”
أزمات متعددة وحلول غائبة
يمتد تأثير الأزمة ليطال كافة القطاعات الحيوية. في القطاع الصحي، تواجه المستشفيات والمراكز الطبية صعوبات كبيرة في توفير الخدمات الأساسية. يقول الدكتور سامر، وهو طبيب في أحد المشافي العامة: “نواجه نقصاً حاداً في الأدوية والمستلزمات الطبية. الكثير من المرضى يضطرون للانتظار لفترات طويلة للحصول على العلاج، وبعضهم يتخلى عن العلاج بسبب التكاليف المرتفعة.”
في المجال التعليمي، تواجه الأسر صعوبات جمة في تأمين المستلزمات المدرسية لأبنائها. تقول فاطمة، وهي معلمة في مدرسة حكومية: “نرى طلاباً يأتون إلى المدرسة دون كتب أو قرطاسية كافية. بعض الأهالي يضطرون للاختيار بين شراء الطعام أو المستلزمات المدرسية لأطفالهم.”
جذور الأزمة وتعقيداتها
تعود جذور الأزمة الاقتصادية في الساحل السوري إلى سياسات اقتصادية متراكمة على مدى سنوات، وغياب الإصلاحات الهيكلية اللازمة في دمشق. ويرى محللون اقتصاديون أن تأخر اتخاذ القرارات المصيرية، وضعف الإدارة المركزية للملفات الاقتصادية، ساهم في تعميق الأزمة.
يقول الباحث الاقتصادي عماد خ: “القرارات الاقتصادية تأتي متأخرة ومجتزأة، وغالباً ما تكون حلولاً ترقيعية لا تعالج أصل المشكلة. النهج المتبع في إدارة الاقتصاد يفتقر إلى الرؤية الشاملة والإرادة الحقيقية للإصلاح.”
العقبات السياسية
وتشير دراسات اقتصادية إلى أن تعثر الحلول السياسية الشاملة للأزمة السورية يلقي بظلاله على الواقع المعيشي. فالتأخر في تبني مسار سياسي واضح يؤدي إلى استمرار العقوبات الاقتصادية وعزلة البلاد عن محيطها الإقليمي والدولي، مما يفاقم معاناة المواطنين.
ويضيف الاقتصادي عماد خ: “الانفتاح على الحلول السياسية وتطبيق القرارات الدولية يمكن أن يفتح آفاقاً جديدة للاقتصاد السوري. لكن غياب المرونة السياسية في دمشق وتمسكها بمواقفها يطيل أمد الأزمة الاقتصادية.”
يقف الساحل السوري اليوم على مفترق طرق، حيث تتفاقم الأزمات المعيشية يوماً بعد يوم، في ظل غياب الحلول الجذرية. وتبقى التساؤلات مطروحة حول مستقبل المنطقة وقدرتها على تجاوز هذه المرحلة الصعبة. فهل ستتمكن من استعادة مكانتها الاقتصادية والسياحية، أم أن الأزمة ستستمر في تعميق جراحها وتهديد نسيجها الاجتماعي؟ الإجابة تبقى رهينة التطورات المستقبلية والقدرة على إيجاد حلول جذرية للأزمات المتراكمة.
معن الجبلاوي- اللاذقية