بقلم: علي رحمون
أكثر من 13 عاماً، والأزمة السورية لا تزال مستعصية على الحل، والأسباب كثيرة ومتعددة و يأتي في مقدمتها معاناة البلاد من التجزئة الواقعية نتيجة التدخلات الخارجية العسكرية والسياسية والصراعات المحلية المتعددة، وتشتت المعارضة وتبعثر قواها بظل نظام سلطة حاكمة مارست وعلى مدار عقود طويلة سياسات القمع والتهميش والتمييز والتي كرست انقساماً عمودياً في المجتمع على أُسس قومية ودينية وطائفية، و مع انطلاقة الثورة السورية السّلمية عام 2011، قابل المطالب الشعبية بعنف مفرط، مما ولّد عنفاً مضاداً وأدخل البلاد في دوامة من الصراع الذي ما زال قائماً دون أي أفق للخروج منه.
ولذلك، فإن السوريين اليوم بأمسّ الحاجة إلى مشروع وطني سوري ينطلق من قاعدة متينة و يعمل على تحقيق تطلعاتهم وبمشاركة الجميع دون أي إقصاء أو تهميش أو تمييز على أساس القومية أو الدين، فجاء إطلاق المسار الديمقراطي السوري لمشروعه السياسي في مؤتمرٍ تأسيسي في بروكسل، ضمّ مجموعة من القوى والشخصيات الديمقراطية، سعياً لإعادة تنظيم وتفعيل العمل السياسي ومحاولةً لرسم ملامح واضحة لمستقبل سوريا في ظل واقع معقّد ومتغيرات عاصفة وخطيرة.
هذا المسار الجديد لم يكن وليد اللحظة أبداً، بل جاء نتاج عملٍ دؤوب وحوارات معمّقة هدفت لتأسيس نواة صلبة تستقطب الطاقات السياسية المبعثرة، خاصة وأن الواقع السياسي السوري يعاني من تشتت القوى الديمقراطية بشكل خاص وضعف تأثيرها، مع وجود عدد كبير من الشخصيات السياسية المستقلة خارج أي إطار تنظيمي، مما يحدُّ من فاعليتها وتأثيرها في المشهد السياسي العام.
ولقد تبلورت معالم المشروع وأُسسه الفكرية والسياسية بعد سلسلة من اللقاءات التشاورية في العاصمة السويدية ستوكهولم، وماسُمّي بمسار ستوكهلم فتشكلت لجنة الإعداد والتحضير للمؤتمر حملت على عاتقها مهمة التواصل والحوار مع مختلف القوى السياسية والشخصيات المستقلة.
ولقد تباينت ردود الفعل حول المشروع على نحو لافت، فبعض القوى تعاملت بجدّية مع الدعوات وقدّمت ملاحظاتها وأبدت موافقتها على المشاركة، بينما تجاهلت قوى أخرى الدعوات لأسبابها الخاصة، وهناك من رفض المشاركة بسبب تأثيرات وأجندات خارجية، علماً أن الخلاف لم يكن على الرؤى والوثائق المطروحة.
وبعد نحو عامين تكللت الجهود المضنية في التواصل مع القوى السياسية والشخصيات المستقلة، بعقد المؤتمر التأسيسي للمسار الديمقراطي السوري في العاصمة البلجيكية بروكسل، بمشاركة 128 شخصية ديمقراطية ممثلينَ للكتل السياسية ومستقلين ديمقراطيين، وعلى مدار يومين كاملين تم فيها مناقشة مشروع أوراق المؤتمر و رؤية المسار الديمقراطي للوضع السوري، سوريا التي نريد، وآفاق الحل اعتمادا على مبادىء وأسس واضحة، ثم انتخاب أمانة عامة للمؤتمر.
لقد طرح المسار الديمقراطي رؤية متكاملة لمستقبل سوريا، تقوم على مبادئ منها: الوحدة الوطنية والهوية السورية الجامعة. فالتنوع السوري بمكوناته الفسيفسائي؛ العربي والكردي والسرياني الآشوري والأرمني والتركماني والشركسي… وغيرهم والذي يشكّل ثراءً وغنى حضاري ولإعلاء شأن هويتهم وتحويلها لهوية جامعه لهم ومحرك لطاقاتهم وهذا ماتفرضه الحاجة لعقد اجتماعي جديد يعكس خصوصية المجتمع السوري، وبالتالي تحتاج لإطار سياسي يحرّك طاقاتها ويحميها ويطورها، هذا التنوع الذي يساهم في خلق بيئة غنية بالثقافات والعادات والتقاليد، ويُثري النسيج المعرفي والثقافي السوري وحتى الاقتصادي، ويعزز مكانته الحضارية.
واقترح المسار حلولاً عملية للقضايا المطروحه ، كتبني اللامركزية كمدخل لحل الإشكالات التاريخية والتنموية، وعلى رأسها القضية الكردية التي تحتاج لمعالجة عادلة تضمن الحقوق المشروعة وفق القوانين و المبادئ التي أقرّها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الفردية والجماعية، كما أن اللامركزية قد تشكّل ضمانة لعدم عودة الاستبداد وتعزز بناء الدولة التشاركية العادلة التي تحترم التنوع والتعددية وتضمن حقوقهم وتحقيق تطلعاتهم.
كما أكد المسار على أهمية فصل السلطات، وفصل الدين عن الدولة وحيادها تجاه المعتقدات الدينية، والتمسك بالقرارات الدولية، وخاصة القرار 2254، كمرجعية للحل السياسي وتحقيق التغيير الديمقراطي. وشدد على ضرورة بناء سوريا على أُسس دستورية عصرية محصّنة تعتمد المواثيق والشرعية الدولية لحقوق الإنسان والجماعات.
إن هذا المسار الديمقراطي يأتي في لحظة إقليمية ودولية بالغة التعقيد والخطورة. فالحرب الروسية الأوكرانيا، والصراع الاسرائيلي- الفلسطيني وفي غزة خاصة وتداعياته على لبنان مع حزب الله، والتوتر المتصاعد بين إيران وإسرائيل واحتماليه امتدادها إلى سوريا، خاصة وأن تركيا تحاول أستغلال اي فرصة لاعتداءاتها المستمرة على الأرض السورية وبشكل خاص على الشمال الشرقي منها بهدف تكريس احتلالها. كلها عوامل تفرض إعادة النظر في المقاربات السياسية وتكييفها مع المتغيرات المتسارعة.
المسار الديمقراطي السوري يراهن على قدرة السوريين لتجاوز انقساماتهم وبناء مشروعهم الوطني لأن مستقبل سوريا يحدده ويصنعه السوريون أنفسهم وذلك عبر حوارٍ وطني شامل يؤسس لمؤتمر وطني يعمل لتحقيق دولة ديمقراطية تعددية لامركزية. ولذلك المسار مفتوحٌ أمام الجميع، لا يسعى لاحتكار ولا أفضلية ولا إقصاء أي قوة أو طرف، ويتّخذ من مبدأ الحوار مع جميع الأطراف أساساً له بغية الوصول إلى توافقات وتحالفات والعمل المشترك لبناء كيان سياسي-اجتماعي يعبّر عن السوريين وتطلعاتهم وآمالهم.
ينتظر الأمانة العامة للمسار الديمقراطي السوري، الكثير من العمل الشاق والمُضني في تنظيم عمل المسار ووضع خطة الطريق نحو مؤتمر وطني عام وشامل، سعياً لبناء مستقبل يليق بتاريخ سوريا وحضارتها وشعبها.