يعيش تجار وصناعيو حلب في الساحل السوري واقعاً مريراً بعدما تحول ملاذهم الآمن إلى ساحة ضغط اقتصادي وابتزاز ممنهج. وكشفت التحقيقات والشهادات التي جمعناها عن حجم المعاناة التي يواجهها هؤلاء التجار، الذين فروا من جحيم الحرب في حلب عام 2012 باحثين عن الاستقرار في المنطقة الساحلية، ليجدوا أنفسهم اليوم في مواجهة تحديات قد تفوق ما هربوا منه. منذ بداية الأزمة السورية.
شكل الساحل السوري وجهة رئيسية للتجار والصناعيين الحلبيين، الذين وجدوا في محافظتي اللاذقية وطرطوس ملاذاً آمناً لاستثماراتهم وأعمالهم. ساهم استقرار الوضع الأمني في المنطقة الساحلية في جذب رؤوس الأموال الحلبية، خاصة مع تصاعد حدة المعارك في حلب وما رافقها من دمار طال المنشآت الصناعية والتجارية.
تُعد حلب من أهم المراكز الاقتصادية والصناعية في سوريا، حيث شكلت على مدى عقود عاصمة الصناعة السورية ومركزاً تجارياً حيوياً في المنطقة. وقد عُرف التجار والصناعيون الحلبيون تاريخياً بخبرتهم العريقة وقدرتهم على تطوير الأعمال وإدارة المشاريع الكبرى، مما جعل منهم ركيزة أساسية في الاقتصاد السوري.
مع اندلاع الأحداث في سوريا عام 2011، تحولت حلب تدريجياً إلى ساحة معارك، وبلغت المواجهات ذروتها في عام 2012، حيث شهدت المدينة معارك عنيفة أدت إلى تدمير واسع في مناطقها الصناعية وأحيائها التجارية. هذا الوضع دفع غالبية التجار والصناعيين إلى البحث عن مناطق آمنة لنقل استثماراتهم ومصانعهم.
اقرأ/ي أيضاً: تدهور الأوضاع المعيشية في الساحل السوري يدفع السكان إلى حافة اليأس
شكلت المنطقة الساحلية السورية، وتحديداً محافظتي اللاذقية وطرطوس، خياراً مفضلاً للكثير من التجار الحلبيين نظراً لاستقرارها الأمني النسبي وقربها من الموانئ البحرية. كما أن البنية التحتية في هذه المنطقة ظلت سليمة إلى حد كبير خلال سنوات الأزمة، مما جعلها وجهة جاذبة للاستثمار.
بداية واعدة وترحيب رسمي
في السنوات الأولى من نزوحهم إلى الساحل، حظي التجار الحلبيون بترحيب استثنائي وتسهيلات واسعة من السلطة. كانت الحكومة السورية بحاجة ماسة إلى الحفاظ على حركة رؤوس الأموال في ظل انهيار الليرة السورية وتوقف العديد من المصانع في مختلف المناطق. نجح العديد من التجار في إعادة تأسيس أعمالهم وتطويرها، مما ساهم في إنعاش الاقتصاد المحلي في المنطقة الساحلية. قدمت غرف التجارة والصناعة في المحافظات الساحلية دعماً كبيراً للوافدين الجدد، وسهلت إجراءات ترخيص منشآتهم وتوفير المواد الأولية اللازمة لإعادة تشغيل مصانعهم.
تحول مفاجئ.. من الترحيب إلى التضييق
مع توقف العمليات العسكرية وتغير الظروف الاقتصادية، بدأت معاناة جديدة للتجار الحلبيين. تحولت التسهيلات السابقة إلى سلسلة من الضغوط والممارسات التي تستهدف أعمالهم ومصالحهم. برزت الفرقة الرابعة كلاعب رئيسي في هذا المشهد، حيث فرضت نفسها شريكاً إجبارياً في أعمال التجار من خلال نظام معقد من الإتاوات والضغوط. أصبحت المداهمات الليلية للمستودعات والمصانع أمراً معتاداً، وباتت مصادرة البضائع تحت ذرائع مختلفة ممارسة شائعة.
شهادات حية من قلب المعاناة
يروي محمد نعساني، التاجر الحلبي البالغ من العمر 64 عاماً، قصة مؤلمة عن تجربته في اللاذقية. بعد نجاحه في نقل معمله من حلب وإعادة تأسيسه في اللاذقية، فوجئ بفرض ضرائب باهظة وصلت إلى 80 مليون ليرة سورية عن سنة واحدة، دون أي تبرير منطقي أو مناقشة مسبقة. امتدت المضايقات لتشمل مداهمات متكررة لمستودعاته ومصنعه، وتعرض لضغوط متواصلة من مختلف الجهات الرسمية وغير الرسمية.
في طرطوس، يكشف عمر الحلبي، صاحب معمل المنظفات، عن نمط مماثل من الممارسات. تحولت الزيارات الأسبوعية لدوريات الفرقة الرابعة إلى كابوس منتظم، حيث يُجبر على تقديم “المعلوم” وحصة من إنتاج مصنعه. يؤكد أن غياب الحماية القانونية وضعف دور الغرف التجارية والصناعية جعل التجار عرضة للابتزاز المستمر.
أساليب الضغط والابتزاز
تتنوع أساليب الضغط على التجار الحلبيين بشكل يجعل مقاومتها أمراً شبه مستحيل. تبدأ بالمداهمات المفاجئة للمستودعات والمصانع، وتمتد إلى فرض الضرائب الباهظة ومصادرة البضائع بحجج مختلفة. وصل الأمر في بعض الحالات إلى عمليات خطف للتجار أو أفراد عائلاتهم بهدف الحصول على فدية، مما أضاف بعداً أمنياً خطيراً إلى معاناتهم الاقتصادية.
مأزق حالي ومستقبل مجهول
يجد التجار الحلبيون أنفسهم اليوم في موقف بالغ الصعوبة. فالعودة إلى حلب، رغم استقرار الوضع الأمني نسبياً، تواجه تحديات كبيرة تتعلق بضعف البنية التحتية وانقطاع الكهرباء المستمر وصعوبة تصريف المنتجات. في المقابل، أصبح البقاء في الساحل مكلفاً مادياً ومرهقاً نفسياً في ظل الضغوط المتزايدة. يفكر العديد منهم جدياً في البحث عن فرص استثمارية خارج سوريا، رغم تعلقهم بوطنهم وحرصهم على الاستمرار في خدمة اقتصاده.
اقرأ/ي أيضاً: على أبواب الوطن.. كيف حولت الفرقة الرابعة عودة السوريين من لبنان إلى مأساة جديدة
مستقبل غامض يهدد الاقتصاد السوري
تكشف معاناة تجار حلب في الساحل السوري عن أزمة عميقة تتجاوز حدود معاناتهم الشخصية لتطال الاقتصاد السوري بأكمله. فالممارسات الحالية من ضغوط وابتزاز لا تهدد فقط استمرارية أعمال هؤلاء التجار والصناعيين، بل تنذر بتداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة على المدى البعيد.
يواجه الاقتصاد السوري اليوم خطر خسارة شريحة مهمة من رجال الأعمال والصناعيين ذوي الخبرة والكفاءة. فمع استمرار الضغوط الحالية، يتجه العديد من التجار الحلبيين للبحث عن فرص استثمارية خارج سوريا، مما يعني خسارة مزدوجة للاقتصاد الوطني: الأولى تتمثل في هجرة رؤوس الأموال، والثانية في فقدان الخبرات الصناعية والتجارية التي تشكل عصب الحياة الاقتصادية.
إن غياب الحلول الجذرية لهذه المشكلة وعدم وجود آليات حماية قانونية فعالة للمستثمرين، يضع علامات استفهام كبيرة حول مستقبل الاستثمار في سوريا. فالمناخ الاستثماري الحالي، المثقل بالضغوط والابتزاز، لا يشجع على جذب استثمارات جديدة أو حتى الحفاظ على الاستثمارات القائمة.
في ظل هذا الواقع، تبدو الحاجة ملحة لإعادة النظر في السياسات الاقتصادية وآليات حماية المستثمرين. فالحفاظ على ما تبقى من القدرات الإنتاجية والخبرات الصناعية يعد أمراً حيوياً لأي محاولة مستقبلية للنهوض بالاقتصاد السوري. وما لم تتخذ خطوات جادة في هذا الاتجاه، فإن مستقبل الاستثمار في سوريا سيظل محفوفاً بالمخاطر، وستستمر هجرة رؤوس الأموال والخبرات نحو الخارج، مما يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي السوري المتأزم أصلاً.
معن الجبلاوي- اللاذقية