تستمر معاناة السوريين على امتداد مناطق سيطرة السلطة، وكأنهم على موعد دائم مع الأزمات المركّبة والمعقّدة التي تلاحق أعمالهم في حمص وحماة وغيرها من المناطق. وتبرز اليوم أزمة جديدة فُرضت عليهم من قبل مكتب أمن الفرقة الرابعة تحت عنوان “الفاتورة الأمنية”. لم يشفع للسوريين معاناتهم جراء الأزمات التي تحيط بهم من كل جانب، ولم يشفع لهم نقص المحروقات وغياب الكهرباء وفرض ضرائب كثيرة وكبيرة أرهقت الصناعيين والتجار وصغار الباعة. كل ذلك لم يكن سببًا في تخفيف ضغوط السلطة والمرتبطين بها على السوريين، بل ذهبت هذه السلطة إلى إطلاق قطعانها في الفرقة الرابعة لممارسة نشاطاتها ضد السوريين وفرض الأتاوات عليهم، ليبقى السوريون قابعين بين سياسات خنق السلطة وتشبيح الفرقة الرابعة.
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، تعددت أشكال المعاناة التي يتعرض لها السوريون في مناطق سيطرة السلطة. ومع مرور السنوات، تطورت أساليب الضغط الاقتصادي والمالي على المواطنين من قبل مؤسسات السلطة وأذرعها العسكرية والأمنية. وقد برزت الفرقة الرابعة كأحد أبرز هذه الأذرع التي تمارس نفوذاً واسعاً على الحياة الاقتصادية في سوريا. بدأت ممارساتها بما عُرف بنظام “الترفيق” الأمني للقوافل التجارية، ثم تطور الأمر إلى فرض “الفاتورة الأمنية” كوسيلة جديدة لجباية الأموال من التجار والصناعيين، في ظل انهيار اقتصادي غير مسبوق تشهده البلاد.
تفاجأ السوريون في الآونة الأخيرة بمصطلح “الفاتورة الأمنية” الذي لم يستثنِ أحدًا من التجار والصناعيين وحتى على مستوى نقل البضائع، لتكون وسيلة لتقييد كل المجالات الصناعية والتجارية والعاملين فيها. في المقابل، كان ما يُعرف بـ”الترفيق” سائدًا ومفروضًا على التجار والصناعيين في فترات سابقة، حيث تقوم قوى أمنية تابعة للفرقة الرابعة بمرافقة قوافل نقل البضائع من دمشق إلى حلب مثلًا. لكن بعد توقف الأعمال العسكرية والهدوء النسبي في الواقع الأمني، لم يعد الترفيق مطلوبًا، وتم الانتقال إلى الفاتورة الأمنية.
اقرأ/ي أيضاً: تجار حلب في الساحل السوري.. من ملاذ آمن إلى حصار اقتصادي
من المهم التذكير بأن مكتب الترفيق التابع للفرقة الرابعة كان يفرض على كل المصانع والأعمال رسومًا تتعلق بعمليات تمويل العاملين في الترفيق، وكأن السوريين مجبرون على دفع رواتب هؤلاء في ظل أزمات معيشية واقتصادية أرهقتهم. أما اليوم، فتتكفل الفاتورة الأمنية بذلك، إذ يتوجب على كل تاجر أو صناعي يرغب بجلب بضائع من محافظة أخرى أو تسويق بضائعه دفع قيمة الفاتورة الأمنية وفق ما يحدده مكتب أمن الفرقة الرابعة، الأمر الذي فرض أعباءً إضافية عليهم، ما دفعهم إلى تحميل قيمة تلك الفاتورة على البضائع، مما تسبب في ارتفاع أسعار الكثير من المواد الغذائية والسلع.
يقول أحد التجار العاملين في مجال إنتاج وتصنيع الزيوت النباتية في مدينة حماة، والذي رفض الكشف عن اسمه، إن الفاتورة الأمنية المفروضة عليهم هي سرقة وتشليح ونصب واحتيال. ويضيف أنه يعمل في هذا المجال منذ ما يقارب الثلاثين عامًا، ويقوم بتسويق إنتاجه من حماة إلى حمص ودمشق وصولًا إلى حلب والمناطق الشرقية.
ويروي التاجر تجربته مع الفاتورة الأمنية قائلًا إنه في إحدى المرات أرسل شاحنة محملة بالزيوت النباتية، وعند أحد حواجز الفرقة الرابعة على مدخل حمص، طُلب من السائق فاتورة أمنية. استغرب السائق هذا الطلب واتصل به مخبرًا إياه بتوقيف الشاحنة وحجزها لعدم حمله فاتورة أمنية، رغم أن البضائع كانت مرفقة بفاتورة نظامية ومختومة من غرفة صناعة وتجارة حماة.
بعد مراجعات عديدة مع غرفة التجارة ووزارة التجارة الداخلية، لم يتغير الوضع، واضطر التاجر للذهاب إلى مكتب أمن الفرقة الرابعة في محافظة حماة لتحرير فاتورة أمنية. وبعد حساب كمية الزيوت وثمنها، تم تكليفه بمبلغ سبعة ملايين ليرة سورية، مما اضطره لإضافة هذا المبلغ إلى تكلفة الإنتاج والنقل ورفع سعر الزيوت النباتية على المستهلك.
ولم تقتصر تأثيرات الفاتورة الأمنية على كبار التجار والصناعيين، بل طالت حتى صغار الباعة أصحاب المحلات الصغيرة. يروي وحيد المعمار، صاحب محل بزورات في إحدى قرى ريف حماة، كيف فُرض عليه دفع مبلغ مليونين وأربعمئة ألف ليرة سورية كفاتورة أمنية على ما يحمله من بزورات وأعشاب طبية.
اقرأ/ي أيضاً: تدهور الأوضاع المعيشية في الساحل السوري يدفع السكان إلى حافة اليأس
ويؤكد المحامي “إ.أ” أن الفاتورة الأمنية غير قانونية ولا موجب قانونيًا لها طالما أن هناك وزارة معنية بالتجارة، وطالما أن التجار والصناعيين يمتلكون سجلات تجارية أو صناعية ويسددون ما عليهم من ضرائب ورسوم للوزارات المعنية.
تعكس ظاهرة “الفاتورة الأمنية” حالة التدهور المؤسساتي والقانوني في سوريا، حيث باتت المؤسسات العسكرية والأمنية تتجاوز صلاحياتها وتفرض نفسها بديلاً عن المؤسسات المدنية والاقتصادية. هذا الواقع الجديد يضاعف من معاناة السوريين الذين يواجهون أصلاً تحديات معيشية واقتصادية هائلة، ويؤدي إلى ارتفاع مستمر في الأسعار وتدهور مستوى المعيشة. ومع استمرار هذه الممارسات، يبدو أن الأزمة الاقتصادية والمعيشية في سوريا تتجه نحو المزيد من التعقيد، في ظل غياب أي بوادر لإصلاح حقيقي أو تغيير في سياسات السلطة تجاه مواطنيها.
وهكذا يستمر مسلسل معاناة السوريين، فما إن تنتهي أزمة حتى تطل برأسها أزمة أعمق منها. ويبدو واضحًا أن السلطة تعمل بشكل ممنهج على خنق السوريين بكل الوسائل المتاحة، حتى باتت هي نفسها أكبر وأعمق أزماتهم، ولن تُحل أي من هذه الأزمات إلا برحيل السلطة وأدواتها.
ضياء العاصي- حماة