تحذر العديد من الجهات الحقوقية والإنسانية من تفاقم الأوضاع الأمنية في محافظة درعا جنوب سوريا، وعدم وضع حدٍّ لحالة اللااستقرار والفوضى الأمنية، وعدم تدخل السلطات السورية لوضع حلّ لهذا الواقع. نحن أمام مشهد يُراد منه تعميق معاناة السوريين واستهداف أمنهم ومنعهم من العودة إلى حياتهم الطبيعية. محافظة درعا وما شهدته عَقِب إقرار التسوية عام 2018، تعيش واقعاً يسير في مسار دموي دون نهاية محددة. الأحداث والتقارير الواردة من درعا تؤكد أن نزيف دماء السوريين لم يتوقف رغم تعهدات السلطة وحلفائها بعودة الاستقرار إلى درعا وريفها، وهذا ما نصّ عليه صراحة اتفاق التسوية، لكن المشهد في درعا يُنذر بالمزيد من الدماء.
في تقارير سابقة، خصصنا مساحات للحديث عن بعض القرى التي تشهد حوادث أمنية وعمليات اغتيال للمعارضين وللعديد ممن قاموا بالتوقيع على اتفاق التسوية وتسليم سلاحهم. كان هؤلاء تحديداً يتوقون إلى العودة لحياتهم الطبيعية والعمل من جديد في مصالحهم لترميم الواقع الذي عمدت السلطة على هدمه، لكن كل ذلك بقي بعيداً عن الواقع. اليوم تكاد غالبية قرى وبلدات محافظة درعا تشهد حوادث أمنية وتفجيرات وعمليات اغتيال وخطف، الأمر الذي بات واقعاً لا يمكن تجاهله من قبل أهالي المحافظة، لا سيما أن هذا الواقع يمنعهم من القيام بأعمالهم والعمل على تحسين واقعهم المعيشي، في ظل ظروف اقتصادية تُنبئ بالمزيد من التدهور.
الواقع الأمني والمعطيات الجديدة
أعمال العنف المتنقلة بين قرى وبلدات محافظة درعا أجبرت الكثير من الأهالي على النزوح باتجاه المناطق الأكثر أمناً. يؤكد الكثيرون أن ما تشهده المحافظة من عمليات قتل وخطف واغتيال كان سبباً في الهروب نحو السويداء ودمشق، حفاظاً على حياة أطفالهم ونسائهم. هذه الحالة لا تقتصر على قرية أو بلدة بعينها، بل يكاد هذا الواقع أن يكون مطابقاً لكل قرى وبلدات المحافظة دون استثناء، خاصة أن المسار التصاعدي للعنف في درعا يُنذر بالأسوأ.
اقرأ/ي أيضاً: غياب الإرادة الدولية في محاسبة تركيا يقضي على طبيعة عفرين
حيرة واضحة بدت على وجه خطار الماشي، أحد أعيان محافظة درعا، حين سألناه عن الواقع الأمني المستجد في المحافظة والغايات الأساسية منه. يقول: “نحن كأعيان المحافظة ووجهائها عملنا على تشكيل لجان شعبية مهمتها حماية الأحياء، وتم اقتراح لجان تعمل على حماية مداخل القرى والبلدات من أي أعمال تخريب أو سرقات ولمنع زرع العبوات الناسفة والحد من عمليات الخطف والاغتيال، لكن يبدو أن السلطة دائماً ما تتقدم علينا بخطوة عبر أذرعها الأمنية وعناصر التسويات الذين يعملون معها، بغية إبقاء حالة الفوضى الأمنية في محافظة درعا.”
يؤكد المصدر السابق أن محاولاتهم كأعيان لضبط المشهد الأمني في المحافظة نجحت في بعض الأماكن، لكنهم لا يستطيعون وحدهم فرض الأمن والأمان. يضيف: “لابد من قيام السلطة بالتعاون معنا في هذا الإطار إن كانت جادة في عودة الحياة الطبيعية إلى المحافظة، لكن يبدو واضحاً أن السلطة لا تريد ذلك. إبقاء قطعانها دون حسيب أو رقيب والتي تعمل على نشر الفوضى سيكون له تأثيرات كبيرة وكثيرة على المشهد الأمني في المحافظة. رغم مطالبتنا للسلطة بالتعاون معنا في ضبط المشهد الأمني في قرى وبلدات درعا، إلا أنها دائماً ما كانت تتذرع بأن المُسبب الرئيس لتلك الحوادث هم عناصر من خارج المحافظة يختبئون بين المدنيين ولا يمكن لها أن تتدخل!”
يضيف المصدر ذاته أن ذرائع السلطة واهية ولا تستند إلى الواقع. فعلى سبيل المثال، العديد من البلدات التي تقع في الجزء الشرقي من درعا، بما فيها منطقة اللجاة، تسيطر عليها السلطة بشكل كامل، لكنها نقطة انطلاق لبعض العناصر التابعين للسلطة إلى القرى والبلدات الأخرى للقيام بعمليات أمنية وتفجيرات، وكل ذلك تحت أعين عناصر فرع الأمن العسكري. يتساءل: “إلى متى هذا الواقع؟ صحيح أننا ضبطنا الأمن جزئياً، لكن المشهد الأمني يسير باتجاه التصعيد، ولا يمكن لنا كوجهاء المحافظة أن نبقى صامتين. وإن طالبنا بتدخل دولي لوضع حدٍ لممارسات السلطة وأجهزتها الأمنية في درعا، سيتم وصفنا بالخائنين. لكن هل يعقل أن نموت ونترك أبناءنا عرضة للقتل والخطف والتفجير من قبل السلطة ونبقى صامتين؟ نطالب السلطة وأجهزتها الأمنية بالكف عن تلك الممارسات فقط.”
أهداف السلطة من استمرار نزيف الدماء
المشهد في محافظة درعا بات واضحاً للجميع، لكن استمرار نزيف الدماء دون إيجاد حلول من قبل السلطة يطرح تساؤلات عن أهدافها من استمرار عمليات القتل والتفجيرات. هذا المشهد هو ما تريده السلطة لمنع المحافظة من الانتفاض مجدداً في وجهها، ومنع المدنيين من استعادة أمنهم وحياتهم الطبيعية، للإبقاء على فكرة أن السلطة هي الوحيدة القادرة على ضبط المشهد الأمني، فلا الوجهاء والأعيان ولا اللجان الشعبية قادرة على ذلك.
يؤكد عبد الرحمن الغانم من بلدة جاسم في ريف درعا أن استمرار نزيف الدماء في درعا وانتشار الحوادث الأمنية في عموم المحافظة يؤكد أن السلطة هي المُسبب الرئيس لهذا المشهد. فهي من جانب ترفض الحل السياسي الذي بموجبه سيتم استقرار الواقع الأمني في درعا وغيرها من المحافظات، ومن جانب آخر تسعى إلى تكريس الفوضى انطلاقاً من مبدأ “خلي السوريين يلتهون بأمنهم وما رح نترك لهم مجال للتنفس”.
اقرأ/ي أيضاً: حراك السويداء وتساؤلات الاستمرارية والأهداف
يؤكد المصدر السابق أن درعا تسير في مسار مُبهم، ورغم محاولات الأعيان والوجهاء بضبط الواقع الأمني وتمكنهم من وضع حدٍ لبعض الحوادث الأمنية، إلا أن ذلك لم يكن كفيلاً بتعزيز حالة الاستقرار. السلطة غايتها إبقاء المدنيين ضمن هذا المشهد، لكنهم لن يصمتوا أكثر: “إما إنهاء المشهد الأمني وإعادة الاستقرار، وإما خطوات تصعيدية ضد السلطة وأجهزتها الأمنية راعية الفوضى.”
منذ اتفاق التسوية في درعا عام 2018، لا تزال المحافظة تعاني من استمرار حالة اللااستقرار والفوضى الأمنية، حتى بات مشهد القتل والتفجيرات وحوادث الخطف والابتزاز مشهداً يومياً في عموم المحافظة. كل ذلك وسط مناشدات الأهالي بضبط المجرمين التابعين للسلطة، خاصة أنه في الآونة الأخيرة شهدت العديد من قرى وبلدات المحافظة حركة نزوح تجاه دمشق وريفها والسويداء، بحثاً عن الأمن والأمان الجزئي. لكن متى سيعود الاستقرار إلى درعا وغيرها من المحافظات؟ ألم يعد ضرورياً تطبيق القرار الأممي 2254 ورحيل السلطة ليعود السوريون إلى حياتهم الطبيعية؟
وليد السكري- درعا