لا يمكن القول إن حرائق الغابات الحراجية في سورية أمر طارئ، لكن حدوثها في وقت لا يُتوقع فيه نشوب الحرائق نظراً للعوامل الجوية ورطوبة الأجواء الساحلية هو الأمر الطارئ وغير الطبيعي. هذا الأمر يعزز فرضية أن تكون تلك الحرائق مفتعلة لغايات وأهداف محددة. والأمر الأكثر غرابة أن تحدث الحرائق في توقيت متزامن يطال مناطق متفرقة من حراج الساحل السوري، ضمن توقيت تصفه المراكز المختصة بأنه مغاير لتوقيت الحرائق التي تكثر في الصيف وتحديداً بين شهري تموز وآب.
تقوم تلك المراكز بنشر خرائط للأماكن الأكثر عرضة للحرائق، معتمدة في ذلك على الأجواء الصيفية الحارة، ودرجة الرطوبة وسرعة الرياح واتجاهاتها. لكن أن تحدث حرائق متزامنة خلال شهري تشرين الأول والثاني، طالت مناطق حراجية كبيرة، فضلاً عن الكثير من أشجار الزيتون والحمضيات في الساحل السوري، فهذا الأمر لا يتوافق مع طبيعة الحرائق التي تحدث بشكل طبيعي، ما يعني أن تلك الحرائق وتوقيت حدوثها يؤكد أنها مفتعلة لكن الفاعل لا يترك بصماته.
الحرائق في الساحل السوري التي أتت على مساحات واسعة من المناطق الحراجية والزراعية، سرقت ما تبقى في أيدي السوريين من أرزاق. لم يكن ينقص السوريين أزمة جديدة تعمق جراحهم، وفق قول الكثير من المتضررين من تلك الحرائق. يضيفون أن السلطة تكفلت عبر سياساتها بإفقارهم، واليوم تأتي الحرائق في توقيت لا يتوقع فيه حدوث أي حريق. يبدو أن هناك سياسات ترتكز على افتعال الأزمات والمتاجرة بمعاناة السوريين وإدخالهم في دوامة الفقر والعوز، وسط غلاء شديد في المعيشة وانهيار متواصل للاقتصاد.
بصرف النظر عن توقيت الحرائق أو تاريخها في الساحل السوري، فنحن هنا لسنا بصدد ترقيم الحرائق أو إحصائها، بل نسعى إلى تبيان أسبابها الحقيقية ومن يقف وراءها. لا نسعى لكيل الاتهامات لأي جهة، بل ستكون مقاربتنا لتلك الحرائق ضمن استطلاع آراء الخبراء ورأي الأهالي الذين تضررت أراضيهم الزراعية. الحرائق الأخيرة التي حدثت في الساحل السوري صحيح أنها ليست الأولى من نوعها، لكن الصحيح أيضاً أن اندلاع مثل هذه الحرائق في المناطق الحراجية في الساحل السوري وفي مثل هذا الوقت من العام، هو أمر مفاجئ لكل خبراء الحرائق.
حرائق مفتعلة ولكن!
حقيقةً، فإن الحرائق التي طالت الساحل السوري خلال السنوات الماضية، بعضها كان بفعل عوامل طبيعية وجاءت في توقيت يتوقع فيه ارتفاع مؤشرات حدوث الحرائق. لكن في المقابل، فإن غالبية الحرائق حدثت خارج المؤشرات السابقة. هذا الأمر يطرح تساؤلاً محدداً حول المسؤول عن تلك الحرائق في هذا التوقيت.
نظراً لعدم الوصول إلى مصدر يمكنه تقييم هذا الأمر وفق منظور علمي، تحدثنا إلى خبير طقس يقيم في اللاذقية رفض الكشف عن اسمه لاعتبارات أمنية. وبطبيعة الحال، فإننا لن نستطيع دراسة كل حالات الحرائق، بل سنتخذ الحرائق الأخيرة كركيزة يمكن من خلالها تبيان مشهد الحرائق في الساحل التي تحدث في ظروف غير طبيعية.
يقول الخبير إن الحرائق الأخيرة التي طالت مناطق واسعة في الساحل السوري، وبمعدل 42 حريقاً متزامناً، تعد أمراً خطيراً في توقيته. هناك صعوبة في السيطرة على تلك الحرائق نتيجة عوامل جغرافية أولاً، ومن ثم عدم امتلاك معدات إطفاء الحرائق، والأهم تقصير السلطات المسؤولة عن المناطق الحراجية لناحية فتح طرقات زراعية إلى الأماكن المرتفعة التي يصعب الوصول إليها في زمن الحرائق.
يضيف أن الحرائق الأخيرة التي زادت من معاناة الأهالي في اللاذقية وعموم الساحل السوري حدثت في توقيت غير طبيعي. “على اعتبار أنني خبير في الطقس والمناخ، فإنني ومن خلال مراقبة طقس الساحل السوري رصدت مؤشرات قوية بتحول الرياح من غربية رطبة إلى شرقية جافة، ما يعني انخفاضاً في مستويات الرطوبة. هذا الأمر لا يعلمه إلا الخبراء والمهتمون بالطقس والمناخ، والذين يريدون افتعال الحرائق بغية انتشارها بسرعة وعدم التمكن من السيطرة عليها بوقت قياسي.”
يؤكد الخبير أن توقيت تبدل مسار الرياح كان مثالياً للذين قاموا بإشعال الحرائق. “بالتأكيد من قام بذلك ليس شخصاً منفرداً، بل ثمة جهة قادرة على تتبع مسار الرياح وتأثيراتها على انتشار النيران، وهي ما قامت بإعطاء الأوامر للبدء بإشعال النيران في توقيت متزامن وفي أكثر من مكان واتجاه.”
العامل البشري في الحرائق
وفقاً للخبير، فإن نسبة حدوث الحرائق بشكل طبيعي لا تتعدى 2 إلى 5 بالمئة من مجمل حالات الحرائق. من الممكن حدوث الحرائق جراء الصواعق أو أعقاب السجائر، وهو ما لا ينطبق على الحرائق الأخيرة. يعتقد أن هذه الحرائق ناجمة عن أعمال متعمدة وليست مجرد حرائق عشوائية أو نتيجة عوامل طبيعية أو إهمال من أي مزارع.
يختم الخبير قوله بأن تكرار الحرائق وتحديداً في الأجواء الباردة وفي أماكن متعددة، أمر لا يمكن أن يحدث مصادفة. غالبية الحرائق حدثت نتيجة تدخل بشري، مما يعزز فرضية أن هذه الحرائق مقصودة، وثمة جهات تقف خلفها، للإمعان في إغراق السوريين في الفقر.
السلطة حين تتجاهل الحرائق السابقة
يتذكر السوريون جيداً الحرائق التي حدثت عام 2019، حين أبيدت بالكامل غابات حراجية إضافة إلى مئات الآلاف من الدونمات التي احتوت على أشجار الزيتون والحمضيات. حينها بدأت السلطة بالحديث عن البدء بإنشاء طرق زراعية كثيرة ومتعددة في غالبية المناطق الحراجية وتحديداً في الساحل السوري. لكن المستغرب هو عدم قيام السلطة باتخاذ أي إجراء وقائي من شأنه منع تكرار كوارث الحرائق، وتأخرها عن إنشاء طرق زراعية يمكن أن تصل خلالها آليات إطفاء الحرائق إلى الأماكن الجغرافية الصعبة.
يؤكد أبو نضال (67 عاماً) من إحدى قرى الساحل السوري، أن توقيت الحرائق جاء مع موعد قطاف الزيتون. يقول: “راجعنا مئات المرات مديرية الزراعة في اللاذقية وطالبناها باتخاذ إجراءات لمنع حدوث الحرائق وفتح طرقات زراعية، ووضع خزانات مياه في أعالي المناطق الحراجية والزراعية، لكن لم يستجب أحد لنداءاتنا.”
ختاماً، ما يحدث في الساحل السوري من حرائق ممنهجة لا يمكن وصف ضررها النفسي والاقتصادي على المدنيين وأصحاب الأراضي. مافيات التحطيب ومافيا الاستيلاء على الأراضي الحراجية هم أكثر المستفيدين من افتعال هذه الحرائق وإسناد أسبابها إلى الأسباب الطبيعية. الحرائق الممنهجة التي تحدث في توقيت غير طبيعي تؤكد سعي هذه المافيات لوضع يدها على المساحات المحروقة، وذلك لن ولم يحدث إلا عبر تواطؤ مع السلطة الحاكمة، خاصة أن الأخيرة تقوم بمنح النافذين والمقربين منها تراخيص إعادة استثمارها وتشجيرها وزراعتها، ومع مرور السنوات تصبح هذه المساحات المحروقة تحت ملكيتهم الخاصة.