قد يظن البعض بأن قطاع التعليم في مناطق سيطرة السلطة لا يزال بعيداً عن تأثيرات الأزمة والصراع في سوريا أو لم تمسسه سياسات السلطة، لكن من المؤسف أن يكون قطاع التعليم شأنه شأن باقي القطاعات في مناطق السلطة في دمشق، من ناحية الأزمات التي تعصف به، مع نقص في الكوادر التدريسية والأدوات التعليمية، الأمر الذي انعكس على الطلاب سواء في مراحل التعليم الانتقالي وحتى الجامعي، وهذا ما يمكننا أن نقول من خلاله بأن قطاع التعليم في مناطق السلطة لا يملك مؤشرات إيجابية يُمكن أن تؤسس لمستقبل يحلم به الطلاب السوريون، بل على العكس فإن المعطيات التي تُحيط بقطاع التعليم تُنذر بمستقبل قاتم للأجيال، خاصة أن أهم المعطيات التي يمكن رصدها في قطاع التعليم تتعلق بنقص الكوادر التعليمية المؤهلة نتيجة هجرة غالبية هؤلاء، إضافة إلى البيئة التعليمية التي تفتقر إلى الحد الأدنى من المقومات الأساسية التي تحتاجها عملية تدريسية صحيحة تكون قادرة على تأهيل طلاب قادرين على بناء مستقبل مشرق.
غالبية مباني التعليم أو المدارس وحتى الجامعات في مناطق سيطرة السلطة تحتاج إلى إعادة تأهيل جذري بسبب ما شهدته مناطق السلطة من عمليات تفجير وقصف، والأمر الآخر فإن غالبية المنشآت التعليمية في سوريا لا تتوفر بها المرافق الحيوية الخاصة بقطاعات التعليم سواء الانتقالي والجامعي، ولعل الإشكالية الكبرى في هذا القطاع تتمثل بحسب خبراء هو تجاهل السلطة لأهم قطاع في أي دولة، خاصة أن هذا القطاع وتميزه يُعد مدخلاً مهماً لبناء جيل قادر على بناء المستقبل، خاصة أن سوريا تعاني أزمات معقدة وبحاجة ماسّة للنهوض بكافة القطاعات، وتحديداً قطاع التعليم، لكن سياسات السلطة ضمن هذا القطاع دفعت بالعديد من الطلاب إلى البحث عن مسارات أخرى لتأمين حياة كريمة.
الطلاب والمستقبل المجهول
ما سبق من معطيات ينعكس بشكل مباشر على الطلاب بمستوياتهم كافة، والحديث لم يعد مؤطراً بغياب الكوادر التعليمية المؤهلة، أو غياب الخطط الدراسية القادرة على بناء جيل واعٍ، بل ثمة تخريب ممنهج لمستقبل الطلاب في سوريا. هذا التخريب بدأت معالمه من وضع خطط تعليمية ترتكز على مبادئ حزب البعث، بحسب مراقبين، والأهم في هذا هو غياب الخطط الإستراتيجية الكفيلة بالنهوض بواقع التعليم أولاً، وما يرتبط به لجهة مستقبل الطلاب السوريين، وبالتالي فإن غالبية الطلاب في مناطق سيطرة السلطة تحكمهم رؤية تشاؤمية حيال مستقبلهم في ظل سلطة تعمل على تكريس مبادئها وسياساتها في المناهج التعليمية، وغياب قطاعات العمل التي تعقب المرحلة الجامعية، إضافة إلى أن الواقع الاقتصادي والمعيشي الذي أجبر طلاب كُثر على التوجه إلى التفكير إما بالهجرة، أو الاعتماد على مصالح تسد الرمق فقط.
اقرأ/ي أيضاً: جريمة دون بصمات واضحة.. حرائق الساحل السوري وجراح السوريين
في قلب المعاناة التعليمية السورية، تتجسد قصص الطلاب كشاهد حي على تحديات النظام التعليمي المترهل. يروي “غالب ب”، أحد طلاب الصف الثالث الثانوي في دمشق، قصة مؤلمة عن واقع التعليم المرير.
يصف غالب المرحلة الثانوية بـ “الحلم البعيد”، مشيراً إلى التحديات الهائلة التي يواجهها الطلاب. فالمدارس تعاني من اكتظاظ شديد، وتفتقر للكوادر التدريسية القادرة على شرح المناهج المعقدة. هذا الواقع يدفع الطلاب للاعتماد على الدروس الخصوصية، والتي تشكل عبئاً مالياً كبيراً، حيث تصل تكلفة منهاج الرياضيات للصف الثالث الثانوي إلى 14 مليون ليرة سورية.
يروي غالب معاناة عائلته المالية التي لا تستطيع تحمل تكاليف الدروس الخصوصية، مما اضطره للجوء إلى الدروس المجانية عبر يوتيوب، في محاولة يائسة للتغلب على صعوبات التعليم.
وفي سياق مماثل، تشارك فيحاء السقا، الطالبة الجامعية في كلية الآداب بجامعة دمشق، همومها المريرة. رغم دراستها في فرع مطلوب، إلا أنها تواجه مستقبلاً مظلماً. تتساءل بمرارة عن خياراتها المحدودة: الانتظار لمسابقات التعيين المعقدة، أم اللجوء للقطاع الخاص الذي يتطلب تكاليف باهظة للتدريب.
تختصر فيحاء معاناة جيلها بعبارة مؤلمة: “95 بالمئة من الطلاب يدرسون فقط للحصول على شهادة يعلقونها على الجدار”، مؤكدة أن المستقبل في سوريا “مجهول ومخيف”.
هموم ومعاناة الخريجين
في معزل عن الأحلام الجامعية، تقف تجربة هيفاء وردة شاهدة على مأساة الخريجين السوريين. خريجة الهندسة المدنية من جامعة البعث، تروي قصة دفعة كاملة حاصرتها تحديات الواقع القاسي.
تشرح هيفاء بمرارة مسار دفعتها المكونة من 132 خريجاً، حيث لم يتمكن سوى 17 خريجاً من العمل في مؤسسات حكومية أو مكاتب هندسية محلية. أما الباقون، فاختاروا الهجرة، وكانت دبي وجهتها الشخصية، هرباً من واقع مهني مسدود.
تلفت هيفاء الانتباه إلى خسارة سورية المتمثلة في هجرة أفضل مواهبها، خاصة حملة شهادات الدكتوراه. فالخريجون الشباب يفرون إما هرباً من التجنيد العسكري أو بحثاً عن فرص عمل مستحيلة محلياً، مما ينذر بكارثة أكاديمية وتنموية.
وفي شهادة مؤلمة أخرى، يكشف موظف في وزارة التعليم العالي – رافضاً الكشف عن هويته – عن مشهد مؤلم. مئات الخريجين يتهافتون للحصول على الوثائق الرسمية، ليس للعمل في سورية، بل للهجرة والبحث عن فرص في دول الجوار.
يختصر الموظف المشهد بعبارة مؤثرة: “فضيت البلد من الشباب والمؤهلات”، لتصبح هذه العبارة وصمة عار على جبين منظومة التعليم والتوظيف السورية.رأي الأخصائيين في واقع القطاع التعليمي
رأي الأخصائيين في واقع القطاع التعليمي
في معترك التحديات التعليمية، يبرز التعليم كمحور أساسي للنهوض والتعافي في المجتمعات المنكوبة بالحروب. يمثل التعليم شريان الحياة للاستقرار الاجتماعي وبناء السلام، معتمداً على وعي الطلاب وقدراتهم على مواجهة الأزمات.
اقرأ/ي أيضاً: المشهد في درعا يُنذر بالمزيد من الدماء
تؤكد الباحثة التربوية روضة موصلي أن التعليم يشكل حجر الأساس في التعافي المبكر للمجتمعات المنكوبة. فالطلاب والخريجون المتعلمون قادرون على تحويل الأزمات إلى فرص واستثمارات، لكن الواقع التعليمي السوري يفرض واقعاً مختلفاً تماماً.
تشير موصلي إلى أن الدولة تخلت عن قطاع التعليم لصالح أشخاص غير مؤهلين، يتعاملون مع التعليم بمنطق تجاري بحت. هذا النهج دفع الكثير من الطلاب والخريجين للهروب من الواقع ونقل خبراتهم إلى الخارج، مما يمثل خسارة كبيرة للمجتمع.
ترى الباحثة أن الحل يكمن في تدخل عاجل لإعادة بناء البنية التحتية التعليمية وتوفير فرص عمل للخريجين. كما تدعو إلى إصلاح شامل للمناهج والفلسفة التعليمية، بعيداً عن النمط التلقيني وقريباً من النمط التفاعلي التحفيزي.
يبقى السؤال الجوهري: هل يمكن للتعليم أن ينتشل المجتمع من دوامة التدهور؟ الإجابة تكمن في إرادة حقيقية للتغيير وإعادة الاعتبار للعملية التعليمية كمشروع وطني شامل.
غالبية الطلاب السوريين لديهم يقين مطلق بأن لا مستقبل لهم في مناطق سيطرة السلطة وفي ظل سياساتها، من هنا فإن الطلاب بمستوياتهم كافة يلجؤون إلى أقصر الطرق، بمعنى التوجه إلى العمل والاعتماد على مصالح ومهن أخرى للتغلب على تكاليف الحياة المعيشية الصعبة، والأهم أن غالبية الطلاب يختارون عدم إكمال دراستهم لاعتبارات اقتصادية كثيرة، كل ذلك وسط تجاهل السلطة لمعاناة الطلاب السوريين، دون اتخاذ أي إجراءات كفيلة بترميم واقع التعليم وتعزيز فرص الطلاب بالحصول على فرص وظيفية تتناسب وخبراتهم، الأمر الذي يُنذر بالأسوأ في ما يتعلق بالمجتمع السوري، خاصة أن عماد المجتمع شبابه، والمجتمع لا يمكن تحصينه إلا عبر الشباب المتعلم، ولا يمكن النهوض بأي دولة أو مجتمع إلا عبر التعليم المبني على أسس علمية قوية.
عمار المعتوق-دمشق