بعد سقوط النظام في 8 كانون الأول/دسمبر من العام الفائت، شهدت سوريا تحولاً تاريخياً بعد سقوط النظام الذي دام عقوداً من الزمن. منذ ذلك اليوم، أصبح الساحل السوري، أحد أهم المناطق الاستراتيجية والجغرافية في البلاد، في مرحلة حرجة من إعادة البناء، حيث برزت التحديات العميقة المرتبطة بتحقيق العدالة الانتقالية وتوحيد المجتمع السوري الذي عانى طويلًا من الصراع الداخلي والتهميش.
كانت المناطق الساحلية السورية، الممتدة على طول البحر المتوسط، تتمتع بأهمية استراتيجية كبرى بالنسبة للنظام السوري. تميزت هذه المناطق بتركيبة ديموغرافية معقدة، استغل النظام هذه التركيبة لتعزيز سلطته، معتمداً على ولاء شريحة من السكان العلويين، الذين استفادوا نسبيًا من الامتيازات الاقتصادية والسياسية. ومع ذلك، لم تكن هذه الامتيازات شاملة؛ إذ عانت العديد من المناطق الريفية من التهميش وضعف التنمية.
عانى المجتمع من قمع سياسي شديد، حيث كانت الحريات مفقودة، وكان معظم السكان يعيشون تحت وطأة الفقر والبطالة بسبب السياسات الاقتصادية التي كانت تتركز في يد النُّخب الحاكمة. كما كانت المنطقة، مثل غيرها من المناطق السورية، تشهد حالة من التوتر المستمر بسبب انعدام الاستقرار في ظل السيطرة الأمنية المشددة على كافة مفاصل الحياة اليومية.
اقرأ/ي أيضاً: أين تنظيم “داعش” من كل ما يحدث في سوريا؟
بعد سقوط النظام، أصبح الحديث عن العدالة الانتقالية في الساحل السوري مسألة ملحّة. رغم الضغوط والتحديات التي واجهتها مناطق الساحل، برزت مطالب قوية بتحقيق العدالة والمحاسبة. قسوة النظام السوري على المواطنين في المناطق الساحلية جعلت الكثير من السكان يتطلعون إلى تحقيق العدالة ليس فقط من أجل الانتقام، بل لضمان أن هذه المنطقة لا تعيش في دوامة من الانتقام المستمر.
على الأرض، عبّر العديد من السكان عن رغبتهم في تحقيق العدالة بعيداً عن استغلال الصراع لصالح القوى السياسية أو المحلية. دريد العلي من سكان ريف اللاذقية قال “نريد أن نعيش بسلام، وأن يحصل كل شخص على حقه، دون تمييز أو إقصاء. ما حدث في الماضي يجب ألا يتكرر، ولا نريد أن نكون ضحايا انتقام جديد”، كما قال أحد النشطاء المحليين في مدينة اللاذقية.
عبّر سكان ونشطاء عن رؤيتهم لمفهوم العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية في مرحلة ما بعد سقوط النظام. يقول علي محمود، الناشط السياسي المقيم في مدينة طرطوس: “نحن أبناء هذه الأرض، وعاشرنا بمرارة معاناة السنوات التي سبقت سقوط النظام. لكننا ندرك تماماً أنه لا يمكننا بناء مستقبلنا على أنقاض الثأر. نحتاج إلى محاسبة حقيقية للمسؤولين عن الجرائم التي ارتُكبت بحقنا، ولكن من دون أن نكون جزءاً من دائرة العنف المستمر.”
أما نادر حمد، أحد سكان مدينة بانياس، فيؤكد على ضرورة تحقيق العدالة الشاملة: “العدالة يجب أن تكون عادلة للجميع، ونحن بحاجة إلى ضمانات تكفل حصول جميع الفئات في المجتمع السوري على حقوقها كاملة. إذا كانت هناك أخطاء وظلم في الماضي، علينا أن نعمل معاً لتصحيحها، ولكن بعيداً عن تكرار الأخطاء التي ارتكبها النظام.”
إن التطورات في الساحل السوري بعد سقوط النظام تحمل أبعادًا إقليمية ودولية. تدرك القوى الكبرى في المنطقة أن الوضع في الساحل يمكن أن يكون بمثابة نقطة تحول في مسار الأزمة السورية بأكملها. العديد من القوى الإقليمية والدولية تسعى الآن إلى التأثير على مسار العدالة الانتقالية والمصالحة في سوريا.
كما أن بعض الأطراف الدولية، ترى أن ساحل سوريا يمكن أن يكون نموذجاً لحل سياسي مستقبلي يشمل الجميع، بشرط تحقيق العدالة الانتقالية، وبالتالي فإن السؤال يبقى: هل ستنجح المنطقة في تجاوز تأثيرات الماضي، أم ستبقى هناك انقسامات تهدد استقرارها؟
اقرأ/ي أيضاً: مأساة المخيمات في إدلب.. شتاء آخر في وجه العواصف
من خلال المشهد المعقد الذي يعيشه الساحل السوري بعد سقوط النظام، يتضح أن هناك حاجة ملحة لتحقيق العدالة الانتقالية بشكل عادل وشامل. يجب أن يشمل ذلك محاسبة مرتكبي الانتهاكات، بما في ذلك الأفراد الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية، مع ضمان احترام حقوق جميع مكونات المجتمع السوري.
في الوقت نفسه، يجب أن يتم العمل على بناء الثقة بين مختلف الأطراف السورية، بعيدًا عن التمييز أو الإقصاء. العبور إلى سوريا جديدة يتطلب معالجة جراح الماضي بعناية، مع ضمان عدم عودة الأحقاد.
العدالة الانتقالية لا تتعلق فقط بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم، بل بإعادة بناء الثقة بين أفراد المجتمع وتحقيق الإنصاف لهم جميعاً. إن الساحل السوري، كغيره من المناطق في سوريا، يحتاج إلى دعم قوي من المجتمع الدولي لمساعدة شعبه في تحقيق هذا الهدف، عبر مسارات تحقّق العدالة والمصالحة.
معن الجبلاوي-اللاذقية