مع التحولات الميدانية والسياسية التي تشهدها سوريا، يعود الحديث تدريجياً عن تجدد نشاط تنظيم “داعش”، الذي يبدو أنه يستعيد زخمه بعد سقوط نظام الأسد وانهيار قواته أمام تمدد إدارة العمليات العسكرية في المحافظات السورية. يثير هذا التجدد مخاوف حقيقية، خاصة بعد التحذير الذي أطلقه قائد قوات سوريا الديمقراطية الجنرال مظلوم عبدي من الظهور العلني للتنظيم بعد سنوات من دحره في معقله الأخير بالباغوز شرقي سوريا عام 2019.
يزداد القلق مع توسع نشاط التنظيم المتطرف، الذي لم يعد مقتصراً على البادية السورية، بل أصبح يتسلل بشكل متزايد إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. ويستغل “داعش” بمهارة التطورات الميدانية والفراغ الأمني الناتج عن زوال سيطرة النظام، معيداً إحياء وجوده التنظيمي والعسكري في المنطقة.
التراجع جغرافي وليس عملياتي
ورغم تراجع نفوذ التنظيم جغرافياً إلا أن نشاطه تصاعد تدريجياً، خاصةً في العام الماضي، لا سيما من خلال تنفيذه لعملياتٍ نوعية ودقيقة داخل الأراضي السورية وخارجها والهجوم الإرهابي في نيو أورليانز، الذي نفذه جندي أميركي سابق موالي لتنظيم “داعش” وأودى بحياة 15 شخصا وإصابة 30 آخرين خلال احتفالات رأس السنة، مثالاً، حيث يمثل “داعش” خطراً دائماً من خلال الهجمات منخفضة التقنية، مثل الطعن أو الدهس أو إطلاق النار العشوائي، وهي عمليات يصعب اكتشافها والتصدي لها. خلال السنوات الأخيرة، نفذ التنظيم عمليات دهس في مدن أوروبية كبرى، مثل نيس وبرشلونة وبرلين ونيويورك، مما أدى إلى مقتل أكثر من 100 شخص.
اقرأ/ي أيضاً: مهجرو عفرين.. رحلة ألم وأمل العودة الآمنة بضمانات دولية
تشير التقارير الأمنية إلى أن التنظيم يواصل تشجيع أتباعه على استخدام أساليب بسيطة لتنفيذ هجمات مدمرة، ما يجعل مراقبة هذه الأنشطة تحديًا كبيرًا للأجهزة الأمنية. كما مكّنته عملياته بعد سقوط نظام بشار الأسد من الاستيلاء على مخزونات من الأسلحة والمعدات عائدة لجيش النظام السوري السابق، ولم يخفِ خبراءٌ بالحركات الراديكالية قلقهم من جهود التنظيم في كسب عناصر جُدد وحشد قواته في البادية السورية سعياً منه في إحياء مشروعة المتطرف من جديد.
جهود قوات سوريا الديمقراطية في مكافحة الإرهاب
في سياق الجهود الدولية المستمرة لمكافحة تنظيم “داعش”، أمضت الولايات المتحدة وشركائها من قوات سوريا الديمقراطية نحو عقد من الزمن في محاربة التنظيم في سوريا والعراق المُجاور. وفي حين أن التنظيم قد خسر تقريباً كل ما كان يطلق عليه في السابق دولة الخلافة، إلا أن تهديده لم يتبدّد بشكل كامل. بل على العكس، فقد شنّ التنظيم ما يقرب من 700 هجوم في سورية منذ يناير الماضي، ما يزيد مُعدّل هجماته بمقدار ثلاثة أضعاف المُعدّل ذاته خلال العام الماضي.
تحمل قوات سوريا الديمقراطية على عاتقها مسؤولية كبيرة من خلال حماية وتأمين السجون ومراكز الاعتقال في مناطقها والتي تضمّ أكثر من 40 ألف شخص من مقاتلي التنظيم الإرهابي “داعش” وأفراد عائلاتهم، كما تتزايد المخاوف من أن استنزاف هذه القوات أو إضعافها أو تشتيت مكامن قوّتها في مواجهة العمليات العسكرية التركية والفصائل الموالية لها بعد تهديدات أنقرة باحتلال المزيد من الأراضي السورية في الشمال، الأمر الذي من شأنه إضعاف قدرة قوات سوريا الديمقراطية على تأمين هذه المنشآت، مما قد يفتح الباب أمام عناصر “داعش” للفرار وإعادة تجميع صفوفهم.
فقوات سوريا الديمقراطية تواجه صعوباتٍ مزدوجة في التصدي للهجمات التركية وحماية سجون “داعش” في الوقت نفسه. عناصر تنظيم “داعش” تحاول استغلال الهجمات ضد قوات سوريا الديمقراطية للفرار، لكن هذه القوات تمكنت حتى الآن من السيطرة على الوضع وإعادة اعتقال الفارين.
المستجدات الدبلوماسية في مكافحة الإرهاب
في تطور مهم على صعيد التعاون الدولي لمكافحة تنظيم “داعش”، عقد القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي اجتماعاً رسمياً مع قائد القيادة المركزية الأميركية مايكل كوريلا، لتقييم الوضع السوري الراهن والعمليات المشتركة ضد التنظيم الإرهابي.
خلال الاجتماع، شدد الجانبان على أهمية الجهود الدولية المتمثلة في إعادة تأهيل العوائل في “مخيم الهول”، وضبط السجون المخصصة لمعتقلي “داعش”، وتعزيز الشراكة الاستراتيجية، ووقف إطلاق النار في شمال شرقي سوريا، وضمان الأمن والاستقرار في المنطقة.
وكان كوريلا قد زار سوريا مؤخراً، والتقى بعدد من القادة العسكريين الأميركيين ومسؤولي قسد، وزار “مخيم الهول” ومخيمات أخرى التي تضم آلاف الأشخاص المرتبطين بـ”داعش”. وأكد أن النازحين في هذه المخيمات هم في الحقيقة “جيش لـ “داعش” قيد الاعتقال”، مشدداً على تركيز الإدارة الأميركية على دعم إعادة سكان هذه المخيمات إلى بلدانهم الأصلية.
واختتم كوريلا بالتأكيد على أن الولايات المتحدة ستواصل العمل مع المجتمع الدولي لنقل مقاتلي “داعش” إلى بلدانهم الأصلية للبت النهائي في أمرهم.
الدور التركي في زيادة نشاط “داعش”
وبينما كانت هيئة تحرير الشام بالتحالف مع فصائل المعارضة تشنّ هجومها الخاطف الذي أدى إلى إسقاط بشار الأسد، بدأت فصائل ما يسمى “الجيش الوطني” بدعمٍ من تركيا عملية موازية ضد قوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا، ما أدى إلى اندلاع اشتباكات خلّفت مئات القتلى في صفوف تلك القوات المعتدية وعشرات الشهداء من قوات سوريا الديمقراطية في غضون أيام.
إن مشكلة حماية هذه السجون تتفاقم في ظل هذا الوضع، إذ تتواجد في مناطق مأهولة بالسكان أو على مقربة منها، نظرا لعدم توفر مناطق نائية محصّنة شرق الفرات لبناء سجون متخصصة.
وتشير إلى أن السجون المخصصة لاحتجاز الإرهابيين تحتاج عادةً إلى تقنيات متطورة ومراقبة مستمرة على مدار الساعة، سواء عبر المسيرات أو الأقمار الصناعية، إضافة إلى حراس مدربين تدريبا خاصا ومزودين بأسلحة متطورة.
اقرأ/ي أيضاً: سد تشرين.. الأهمية الاستراتيجية ودوافع تركيا للسيطرة عليه والمخاطر المحدقة به
لا شك أن قوات سوريا الديمقراطية تعتمد بشكل أساسي على انضباط قواتها وجاهزيتها في حماية هذه السجون، وقد نجحت حتى الآن في إحباط العديد من محاولات الهروب الجماعي.
غير أنها تؤكد أن غياب الدعم الدولي الكافي لتطوير البنية التحتية للسجون وتعزيز إجراءات الحماية والمراقبة يمثل عقبة كبيرة أمام تأمين هذه المنشآت بالشكل المطلوب.
خطر “داعش” لم يختفِ كلّياً
إن انحسار تنظيم “داعش” داخل رقعة الأرض عدة سنوات لا يعني اندثاره، بل تستقر قيادته المركزية في المساحات الشاسعة الممتدة في سوريا وكذلك العراق، ومن هناك تطورت سياسته لتستغني عن فكرة إقامة “الدولة الإسلامية” في سبيل الانتشار في مزيد من المساحات بطريقة موزعة يصعب استهدافها نظراً لعدم تمركز قوة كبيرة منهم داخل منطقة واحدة. وقد يكون من غير المرجح أن يشكّل التنظيم المتطرّف التهديد العالمي الذي شكّله عندما كان يحكم “خلافته” المزعومة قبل بضع سنوات. لكن في الظروف المواتية، يمكنه أن يستغل ما يحدث في سوريا بعد سقوط نظام الأسد لتوسيع سيطرته وفرض المزيد من البؤس على حياة السوريين في تلك المناطق التي ينشط فيها.
فاستمرار نشاط تنظيم “داعش” في مختلف الساحات وعلى الساحة السورية على وجه الخصوص على الرغم من الضربات الأمنية المتلاحقة التي تعرّض لها، مؤشّرٌ خطير على أن الأخير هُزم كدولة “خلافة مزعومة”، ولكنه باقٍ كتنظيمٍ إرهابي قادر على تهديد السلم والأمن الدولي والإقليمي، الأمر الذي يستدعي من المجتمع الدولي إعادة النظر في ترتيب أولوياته الأمنية مرة أخرى، لأن هناك خطر حقيقي مرتبط بإعادة اكتسابه نفوذه حال تخفيف الضغط المُمارس عليه في إطار مكافحة الإرهاب، لا سيما مع استمرار عدد كبير من المحفّزات المرتبطة بصعوده.
وسيم اليوسف – إعلام مسد